الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

الحكم الثالث : أن هذه الفرقة توجب تحريما مؤبدا لا يجتمعان بعدها أبدا . قال الأوزاعي : حدثنا الزبيدي ، حدثنا الزهري ، عن سهل بن سعد ، فذكر قصة المتلاعنين وقال : ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقال : ( لا يجتمعان [ ص: 352 ] أبدا )

وذكر البيهقي من حديث سعيد بن جبير ، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا )

قال : وروينا عن علي وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم قالا : ( مضت السنة في المتلاعنين أن لا يجتمعا أبدا ) قال : وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ( يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا ) وإلى هذا ذهب أحمد والشافعي ومالك والثوري وأبو عبيد وأبو يوسف .

وعن أحمد رواية أخرى : أنه إن أكذب نفسه حلت له وعاد فراشه بحاله ، وهي رواية شاذة شذ بها حنبل عنه . قال أبو بكر : لا نعلم أحدا رواها غيره ، وقال صاحب " المغني " : وينبغي أن تحمل هذه الرواية على ما إذا لم يفرق بينهما . فأما مع تفريق الحاكم بينهما فلا وجه لبقاء النكاح بحاله .

قلت : الرواية مطلقة ، ولا أثر لتفريق الحاكم في دوام التحريم ، فإن الفرقة الواقعة بنفس اللعان أقوى من الفرقة الحاصلة بتفريق الحاكم ، فإذا كان إكذاب نفسه مؤثرا في تلك الفرقة القوية رافعا للتحريم الناشئ منها ، فلأن يؤثر في الفرقة التي هي دونها ، ويرفع تحريمها أولى .

وإنما قلنا : إن الفرقة بنفس اللعان أقوى من الفرقة بتفريق الحاكم ؛ لأن فرقة اللعان تستند إلى حكم الله ورسوله ، سواء رضي الحاكم والمتلاعنان التفريق [ ص: 353 ] أو أبوه ، فهي فرقة من الشارع بغير رضا أحد منهم ولا اختياره ، بخلاف فرقة الحاكم ، فإنه إنما يفرق باختياره .

وأيضا فإن اللعان يكون قد اقتضى بنفسه التفريق ؛ لقوته وسلطانه عليه ، بخلاف ما إذا توقف على تفريق الحاكم ، فإنه لم يقو بنفسه على اقتضاء الفرقة ، ولا كان له سلطان عليها ، وهذه الرواية هي مذهب سعيد بن المسيب ، قال : فإن أكذب نفسه فهو خاطب من الخطاب ، ومذهب أبي حنيفة ومحمد ، وهذا على أصله اطرد ؛ لأن فرقة اللعان عنده طلاق . وقال سعيد بن جبير : إن أكذب نفسه ردت إليه ما دامت في العدة .

والصحيح القول الأول الذي دلت عليه السنة الصحيحة الصريحة ، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم ، وهو الذي تقتضيه حكمة اللعان ، ولا تقتضي سواه ، فإن لعنة الله تعالى وغضبه قد حل بأحدهما لا محالة ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عند الخامسة : ( إنها الموجبة ) أي الموجبة لهذا الوعيد ، ونحن لا نعلم عين من حلت به يقينا ، ففرق بينهما خشية أن يكون هو الملعون الذي قد وجبت عليه لعنة الله وباء بها ، فيعلو امرأة غير ملعونة ، وحكمة الشرع تأبى هذا كما أبت أن يعلو الكافر مسلمة والزاني عفيفة .

فإن قيل : فهذا يوجب ألا يتزوج غيرها ؛ لما ذكرتم بعينه ؟ .

قيل : لا يوجب ذلك ؛ لأنا لم نتحقق أنه هو الملعون ، وإنما تحققنا أن أحدهما كذلك ، وشككنا في عينه ، فإذا اجتمعا لزمه أحد الأمرين ولا بد ؛ إما هذا وإما إمساكه ملعونة مغضوبا عليها قد وجب عليها غضب الله وباءت به ، فأما إذا تزوجت بغيره أو تزوج بغيرها لم تتحقق هذه المفسدة فيهما .

وأيضا فإن النفرة الحاصلة من إساءة كل واحد منهما إلى صاحبه لا تزول أبدا ، فإن الرجل إن كان صادقا عليها فقد أشاع فاحشتها وفضحها على رءوس الأشهاد ، وأقامها مقام الخزي ، وحقق عليها الخزي والغضب ، وقطع نسب [ ص: 354 ] ولدها ، وإن كان كاذبا فقد أضاف إلى ذلك بهتها بهذه الفرية العظيمة ، وإحراق قلبها بها ، والمرأة إن كانت صادقة فقد أكذبته على رءوس الأشهاد وأوجبت عليه لعنة الله . وإن كانت كاذبة فقد أفسدت فراشه وخانته في نفسها ، وألزمته العار والفضيحة ، وأحوجته إلى هذا المقام المخزي ، فحصل لكل واحد منهما من صاحبه من النفرة والوحشة وسوء الظن ما لا يكاد يلتئم معه شملهما أبدا ، فاقتضت حكمة من شرعه كله حكمة ومصلحة وعدل ورحمة تحتم الفرقة بينهما وقطع الصحبة المتمحضة مفسدة .

وأيضا فإنه إذا كان كاذبا عليها فلا ينبغي أن يسلط على إمساكها مع ما صنع من القبيح إليها ، وإن كان صادقا فلا ينبغي أن يمسكها مع علمه بحالها ويرضى لنفسه أن يكون زوج بغي .

فإن قيل : فما تقولون لو كانت أمة ثم اشتراها ، هل يحل له وطؤها بملك اليمين ؟

قلنا : لا تحل له ؛ لأنه تحريم مؤبد ، فحرمت على مشتريها كالرضاع ، ولأن المطلق ثلاثا إذا اشترى مطلقته لم تحل له قبل زوج وإصابة ، فهاهنا أولى ؛ لأن هذا التحريم مؤبد ، وتحريم الطلاق غير مؤبد .

التالي السابق


الخدمات العلمية