الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  صفحة جزء
                                                                  11578 - حدثنا أحمد بن رشدين ، ثنا روح بن صلاح ، ثنا سعيد بن أبي أيوب ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يغل مؤمن " . ( ش ) : قوله صلى الله عليه وسلم إذا عاد الرجل المريض خاض الرحمة يريد - والله أعلم - عظم أجر العيادة للمريض وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعيادة المريض واتباع الجنائز وقوله صلى الله عليه وسلم حتى إذا قعد عنده يريد عند المريض قرت فيه فمعنى ذلك - والله أعلم - أنه إذا ثبت له من رحمة الله عز وجل وهي ثوابه الجزيل وتجاوزه عن الذنوب ويتعلق به منها ما ثبت للخائض في الماء فإذا قعد عنده تعلق به منها ما يتعلق بالمستقر الثابت وذلك أكثر مما يتعلق بالخائض في الماء وقوله صلى الله عليه وسلم قرت فيه أو نحو هذا إن كان هذا اللفظ فإنه يحتمل أن يريد به قرت له كما يقول فيه رفق بكذا وفيه طلاقه أي له طلاقه وله رفق ويحتمل أن يكون من المقلوب فيكون معناه قر فيها أي ثبت فيما غمره منها ، والله أعلم وأحكم . ( ش ) : قوله صلى الله عليه وسلم لا عدوى قال : عيسى بن دينار معناه لا يعدي شيء شيئا أي لا يتحول شيء من المرض إلى غير الذي هو به قال : وسمعته من ابن وهب ومعنى ذلك عندي أن العرب كانت تعتقد أن الصحيح إذا جاور المريض أعداه مرضه أي تعلق به ، أو انتقل إليه قال : الشاعر تعدي الصحاح مبارك الجرب فكذب ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وبين أن ذلك كله من عند الله تبارك وتعالى وقد روى الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن أعرابيا قال : يا رسول الله فما بال الإبل تكون في الرمل لكأنها الظباء فيخالطها البعير الأجرب فيجربها فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : فمن أعدى الأول وهذا من أبين طرق الحجاج والإرشاد إلى الصواب وإيضاح وجه الحق ; لأن الأعرابي دخلت عليه الشبهة بأن الإبل تكون في الرمل وهو موضع صالح ليس فيه ما يمرضها فتكون فيه كالظباء حسنا وسلامة من الجرب وغيره فيأتي بعير أجرب فيدخل بينها فيشملها الجرب فاعتقد الأعرابي أن ذلك البعير قد أعداها جربه فقال : له النبي صلى الله عليه وسلم لو كان الجرب بالعدوى لامتنع أن يكون الأول جربا إذ لا بد أن يكون الأول جرب هذه الإبل بغير جرب ابتداء من غير أن يعديه غيره أما إن ذلك دخل البعير الذي دخل بينهما ، أو غيره قبله ؟ وإذا جاز أن يكون هذا الداء لحق الأول من غير عدوى وإنما هو من فعل الله فإنه لا يمتنع أن يكون ما شمل الإبل أيضا من الجرب من فعل الله فلا معنى لاعتقاد العدوى فالواجب أن يعتقد أن ذلك كله من عند الله تبارك وتعالى لا خالق سواه وإن جاز أن يفعله في بعض الأشخاص ابتداء وفي بعضها عند مجاورة الجرب ، والله أعلم . ( فصل ) وقوله صلى الله عليه وسلم ولا هام قال : عيسى بن دينار معناه لا يتطير بالهام قاله مالك رحمه الله وقال : محمد بن عيسى الأعشى كان أهل الجاهلية يقولون : إذا وقعت هامة على بيت خرج منه ميت فعلى هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : ولا هام النهي أن يتطير بذلك أحد وقيل إن معنى ذلك أن العرب كانت في الجاهلية تقول إذا قتل قتيل خرج من رأسه طائر فلا يزال يقول : اسقوني اسقوني حتى يقتل قاتله قال : الشاعر في مثل هذا يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي أضربك حتى تقول الهامة اسقوني فعلى هذا قوله صلى الله عليه وسلم لا هام تكذيب لإخبارهم بذلك والله أعلم . ( فصل ) وقوله صلى الله عليه وسلم ولا صفر قال : مالك وغيره معناه أن العرب كانت في الجاهلية تحرم صفر عاما وتؤخر إليه المحرم وكانت تحله عاما آخر وتقدم المحرم إلى وقته فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال : ابن وهب كان أهل الجاهلية يقولون إن الصفار التي في الجوف تقتل صاحبها وهي التي عدت عليه إذا مات فرد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكذبهم فيه وقال : لا يموت أحد إلا بأجله والله أعلم . ( فصل ) وقوله صلى الله عليه وسلم ولا يحل الممرض على المصح الممرض ذو الماشية المريضة والمصح ذو الماشية الصحيحة قال : عيسى بن دينار معناه : النهي عن أن يأتي الرجل بإبله ، أو غنمه الجربة فيحل بها على ماشية صحيحة فيؤذيه بذلك قال : ولكنه عندي منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم : لا عدوى قال : القاضي أبو الوليد رضي الله عنه وهذا الذي قاله عيسى بن دينار فيه نظر ; لأن قوله صلى الله عليه وسلم لا عدوى إن كان بمعنى الخبر والتكذيب بقول من يعتقد العدوى فلا يكون ناسخا وإن كان بمعنى النهي يريد لا تكرهوا دخول البعير الجرب بين إبلكم غير الجربة ولا تمنعوا ذلك ولا تمتنعوا منه فإنا لا نعلم أيهما قال : أولا وإن تعلقنا بالظاهر فقوله صلى الله عليه وسلم : لا عدوى ورد في أول الحديث فمحال أن يكون ناسخا لما ورد بعده ، أو لما لا يدري ورد قبله ، أو بعده ; لأن الناسخ إنما يكون ناسخا لحكم قد ثبت قبله . وقال : يحيى بن يحيى في المزنية : سمعت أن تفسيره في الرجل يكون به الجذام فلا ينبغي أن يحل محله الصحيح معه ولا ينزل عليه يؤذيه ; لأنه وإن كان لا يعدي فالنفس تنفر منه وقد قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه أذى فهذا تنبيه أنه إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك للأذى لا للعدوى وأما الصحيح فلينزل محلة المريض إن صبر على ذلك واحتملته نفسه قيل له ولم يرد بهذا أن يأتي الرجل بإبله ، أو غنمه الجربة فيحل بها الموردة على الصحيح الماشية قال : لعله قد قيل ذلك وما سمعته وإني لأكره له أن يؤذيه إن كان يجد غنى عن ذلك المورد وكذلك الرجل يكون به المرض لا ينبغي أن يحل موردة الأصحاء إلا أن يكون لا يجد غنى عنها فيردها وقد روى يونس عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا عدوى ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يورد ممرض على مصح قال : أبو سلمة ، ثم صمت أبو هريرة بعد ذلك عن قوله لا عدوى وأقام على أن يورد ممرض على مصح فقال : الحارث بن أبي رئاب وهو ابن أبي هريرة قد كنت أسمعك تحدثنا مع هذا الحديث حديثا آخر تقول لا عدوى فأبى أبو هريرة أن يعرف في ذلك مما رواه الحارث في ذلك حتى غضب أبو هريرة فرطن له بالحبشية فقال : للحارث أتدري ماذا قلت قال : أبو هريرة قلت أتيت قال : أبو سلمة ولعمري لقد كان أبو هريرة يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا عدوى فلا أدري أنسي أبو هريرة ، أو نسخ أحد القولين الآخر قال : القاضي أبو الوليد رضي الله عنه وهذا الذي قاله أبو سلمة يقتضي أن قوله صلى الله عليه وسلم لا يورد ممرض على مصح ناسخ لقوله صلى الله عليه وسلم لا عدوى وهذا على قول من قال : إن قوله صلى الله عليه وسلم على وجه النهي ويصح على هذا التأويل أن يكون أبو هريرة قد عرف الأول منهما قال : القاضي أبو الوليد والذي عندي في معنى ذلك أن قوله صلى الله عليه وسلم : لا عدوى إنما نفى به أن يكون لمجاورة المريض تأثير في مرض الصحيح وأن ذلك من فعل الله عز وجل ابتداء كما فعله في الأول ابتداء وأن قوله صلى الله عليه وسلم لا يورد ممرض على مصح ليس من هذا المعنى والله أعلم لكنه يحتمل معنيين : أحدهما المنع من ذلك لما فيه من الأذى على ظاهر الحديث وهذا الذي يذهب إليه يحيى بن يحيى . والثاني أن يكون البارئ تبارك وتعالى قد أجرى العادة بذلك وإن كان البارئ عز وجل هو الخالق للمرض والصحة فنفى بقوله صلى الله عليه وسلم لا عدوى اعتقاد من يعتقد أن ذلك ليس من فعل الله عز وجل وأنه متولد من مجاورة المريض الصحيح وليس هذا بواضح ; لأنا لا نجد ذلك جاريا على عادة فقد يجاور المريض الصحيح فلا يمرض وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وفر من المجذوم فرارك من الأسد وظاهر هذا يقتضي أنه يستضر به استضرارا غير التكره لمجاورته ; لأنه إذا قدر على الصبر على مجاورته فلا معنى لنهيه صلى الله عليه وسلم إلا أن يريد بذلك النبي صلى الله عليه وسلم إنك إذا استضررت برائحته وكرهت مجاورته فإنه مباح أن تفر منه فرارك من الأسد ، والله أعلم وقد قال : يحيى بن يحيى في القوم يكونون في قريتهم شركاء في أرضها ومائها وجميع أمرها فيجذم بعضهم فيردون المستقى بآنيتهم فيتأذى بهم أهل القرية ويريدون منعهم من ذلك إن كانوا يجدون عن ذلك الماء غنى من غير ضرر بهم ، أو يقوون على استنباط بئر أو إجراء عين من غير ضرر بهم ولا فدح بهم فأرى أن يؤمروا بذلك ولا يضاروا وإن كان لا يجدون عن ذلك غنى إلا بما يضرهم ، أو يفدحهم قيل لمن يتأذى بهم ويشتكي ذلك منهم استنبط لهم بئرا ، أو أجر لهم عينا ، أو أقم من يستقي لهم من البئر إن كانوا لا يقوون على استنباط بئر ، أو إجراء ويكفون عن الورود عليكم وإلا فكل امرئ أحق بماله والضرر ممن أراد أن يمنع امرأ من ماله ولا يقيم له عوضا منه . ( مسألة ) وإذا جذم الرجل فرق بينه وبين امرأته إن شاءت ذلك وقال : ابن القاسم : يحال بينه وبين وطء رقيقه إن كان في ذلك ضرر وقال : سحنون لا يحال بينه وبين وطء إمائه ولم يختلفوا في الزوجة وجه قول ابن القاسم إنها امرأة يلحقها الضرر بوطء المجذوم فوجب أن يحال بينه وبينها كالزوجة وقد قال : ابن القاسم إنما يحال بينه وبين الزوجة إذا حدث ذلك به لأجل الضرر ووجه قول سحنون أن الجذام في الحر لما منع الزوجية ونقضها منع الوطء المستحق بها ولما لم يمنع ملك اليمين لم يمنع الوطء المستحق به ووجه ثان أن هذا عقد يستباح به الوطء فوجب أن يكون تأثير الجذام في وطئه كتأثيره في عقده كعقد النكاح ، والله أعلم وأحكم . ( مسألة ) وهل يخرج المرضى من القرى والحواضر قال : مطرف وابن الماجشون في الواضحة لا يخرجون إن كانوا يسيرا ، وإن كثروا رأينا أن يتخذوا لأنفسهم موضعا كما صنع مرضى مكة عند التنعيم منزلهم وبه جماعتهم ولا أرى أن يمنعوا من الأسواق لتجارتهم والتطرق للمسألة إذا لم يكن إمام عدل يجري عليهم الرزق وقال : أصبغ ليس على مرضى الحواضر أن يخرجوا منها إلى ناحية بقضاء يحكم به عليهم ولكن إن أجرى عليهم الإمام من الرزق ما يكفيهم منعوا من مخالطة الناس بلزوم بيوتهم ، أو بالسجن إن شاء وقال : ابن حبيب وابن عبد الحكم يحكم عليهم بالسجن إذا كثروا أحب إلي وهذا الذي عليه الناس . ( مسألة ) ويمنع المجذوم من المسجد ولا يمنع من الجمعة ولا يمنع من غيرها قاله مطرف وابن الماجشون .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية