الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض استئناف آخر مسوق للإنكار ، والتوبيخ بإخلالهم بالتأمل في الآيات التكوينية المنصوبة في الآفاق ، والأنفس الشاهدة بصحة مضمون الآيات المنزلة ، إثر ما نعي عليهم إخلالهم بالتفكر في شأنه صلى الله عليه وسلم ، والهمزة لما ذكر من الإنكار والتعجب والتوبيخ ، والواو للعطف على المقدر المذكور ، أو على الجملة المنفية بلم .

                                                                                                                                                                                                                                      والملكوت : الملك العظيم ; أي : أكذبوا بها ، أو ألم يتفكروا فيما ذكر ، ولم ينظروا نظر تأمل فيما يدل عليه السماوات والأرض من عظم الملك وكمال القدرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وما خلق الله ; أي : وفيما خلق فيهما على أنه عطف على ملكوت ، وتخصيصه بهما لكمال ظهور عظم الملك فيهما ، أو وفي ملكوت ما خلق ، على أنه عطف على السماوات والأرض ، والتعميم لاشتراك الكل في الدلالة على عظم الملك في الحقيقة ، وعليه قوله تعالى : فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : من شيء بيان لما خلق ، مفيد لعدم اختصاص الدلالة المذكورة بجلائل المصنوعات دون دقائقها ، والمعنى : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ، وما خلق فيهما من جليل ودقيق مما ينطلق عليه اسم الشيء ; ليدلهم ذلك على العلم بوحدانيته تعالى ، وبسائر شئونه التي ينطق بها تلك الآيات ، فيؤمنوا بها لاتحادهما في المدلول ، فإن كل فرد من أفراد الأكوان مما عز وهان ، دليل لائح على الصانع المجيد ، وسبيل واضح إلى عالم التوحيد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم عطف على ملكوت ، و" أن " مخففة من أن ، واسمها ضمير الشأن ، وخبرها " عسى " مع فاعلها الذي هو " أن يكون " ، واسم يكون أيضا ضمير الشأن ، والخبر " قد اقترب أجلهم " ، والمعنى : أولم ينظروا في أن الشأن ، عسى أن يكون الشأن قد اقترب أجلهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد جوز أن يكون اسم " يكون " أجلهم ، وخبرها " قد اقترب " على أنها جملة من فعل وفاعل ، هو ضمير " أجلهم " لتقدمه حكما ، وأيا ما كان فمناط الإنكار والتوبيخ تأخيرهم للنظر والتأمل ; أي : لعلهم يموتون عما قريب ، فما لهم لا يسارعون إلى التدبر في الآيات التكوينية الشاهدة بما كذبوه من الآيات القرآنية ، وقد جوز أن يكون الأجل عبارة عن الساعة ، والإضافة إلى ضمير " هم " لملابستهم لها من جهة إنكارهم لها وبحثهم عنها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : فبأي حديث بعده يؤمنون قطع لاحتمال إيمانهم رأسا ونفي له بالكلية ، مترتب على ما ذكر من تكذيبهم بالآيات ، وإخلالهم بالتفكر والنظر ، والباء متعلقة بيؤمنون ، وضمير بعده للآيات على حذف المضاف المفهوم من كذبوا ، والتذكير باعتبار كونها قرآنا ، أو بتأويلها بالمذكور .

                                                                                                                                                                                                                                      وإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة ، والمعنى : أكذبوا بها ولم يتفكروا ، فيما يوجب تصديقها من أحواله صلى الله عليه وسلم وأحوال المصنوعات ; فبأي حديث يؤمنون بعد تكذيبه ومعه مثل هذه الشواهد القوية ، كلا وهيهات .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : الضمير للقرآن ، والمعنى : فبأي حديث بعد القرآن يؤمنون إذا لم يؤمنوا به ، وهو النهاية في البيان .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : هو إنكار وتبكيت لهم ، مترتب على إخلالهم بالمسارعة إلى التأمل فيما ذكر ، كأنه قيل : لعل أجلهم قد اقترب ، [ ص: 300 ] فما لهم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الفوت ، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق ، وبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : الضمير لأجلهم ، والمعنى : فبأي حديث بعد انقضاء أجلهم يؤمنون . وقيل : للرسول صلى الله عليه وسلم على حذف مضاف ; أي : فبأي حديث بعد حديثه يؤمنون وهو أصدق الناس .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية