الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ويعتبر في المرأة أن يكون لها محرم تحج به أو زوج ، ولا يجوز لها [ ص: 420 ] أن تحج بغيرهما إذا كان بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام ) وقال الشافعي : يجوز لها الحج إذا خرجت في رفقة ومعها نساء ثقات لحصول الأمن بالمرافقة . ولنا قوله عليه الصلاة والسلام { لا تحجن امرأة إلا ومعها محرم } ولأنها بدون المحرم يخاف عليها الفتنة وتزداد بانضمام غيرها إليها ، ولهذا تحرم الخلوة بالأجنبية وإن كان معها غيرها ، [ ص: 421 ] بخلاف ما إذا كان بينها وبين مكة أقل من ثلاثة أيام ، لأنه يباح لها الخروج إلى ما دون السفر بغير محرم . ( وإذا وجدت محرما لم يكن للزوج منعها ) وقال الشافعي : له أن يمنعها [ ص: 422 ] لأن في الخروج تفويت حقه . ولنا أن حق الزوج لا يظهر في حق الفرائض والحج منها ، حتى لو كان الحج نفلا له أن يمنعها ، ولو كان المحرم فاسقا قالوا : لا يجب عليها لأن المقصود لا يحصل به ( ولها أن تخرج مع كل محرم إلا أن يكون مجوسيا ) لأنه يعتقد إباحة مناكحتها ، ولا عبرة بالصبي والمجنون لأنه لا تتأتى منهما الصيانة ، والصبية التي بلغت حد الشهوة بمنزلة البالغة حتى لا يسافر بها من غير محرم ، ونفقة المحرم عليها لأنها تتوسل به إلى أداء الحج . واختلفوا في أن المحرم شرط الوجوب أو شرط الأداء على حسب اختلافهم في أمن الطريق

التالي السابق


( قوله ويعتبر في المرأة ) وإن كانت عجوزا ( أن يكون لها محرم ) كابن أو عم ، وكما يشترط المحرم كذا يشترط عدم العدة وقالوا في الصبية التي لم تبلغ حد الشهوة تسافر بغير محرم ، فإذا بلغت لا تسافر إلا به ، وينبغي أن يكون معنى هذا لا تعان على السفر ولا تستصحب ، فإنها غير مكلفة ما لم تبلغ ، وبلوغها حد الشهوة لا يستلزمه . وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رد المعتدات من النجف ، فإن لزمتها العدة في السفر فإن كان رجعيا لا يفارقها زوجها أو بائنا ، فإن كان إلى كل من بلدها ومكة أقل من مدة السفر تخيرت ، أو إلى أحدهما سفر دون الآخر تعين أن تصير إلى الآخر ، أو كل منهما سفر ، فإن كانت في مصر قرت فيه إلى أن تنقضي عدتها ولا تخرج وإن وجدت محرما ما دامت العدة عنده خلافا لهما ، وإن كانت في قرية أو مفازة لا تأمن على نفسها فلها [ ص: 420 ] أن تمضي إلى موضع آخر آمن فلا تخرج منه حتى تمضي عدتها ، وإن وجدت محرما عنده خلافا لهما ، وهذه المسألة تأتي في كتاب الطلاق إلا أنا ذكرناها هنا لتكون أذكر لمن يطالع الباب .

( قوله وقال الشافعي : يجوز لها إلخ ) له العمومات مثل { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } وقوله صلى الله عليه وسلم حجوا في حديث مسلم السابق . ولحديث عدي بن حاتم أنه صلى الله عليه وسلم قال { يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت لا جوار معها لا تخاف إلا الله تعالى قال عدي : رأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله تعالى } . رواه البخاري ، ولم يذكر لها زوجا ولا محرما .

والقياس على المهاجرة والمأسورة إذا خلصت بجامع أنه سفر واجب . قلنا : أما العمومات فقد تقيدت ببعض الشروط إجماعا كأمن الطريق فتقيد أيضا بما في الأحاديث الصحيحة كما في الصحيحين { لا تسافر امرأة ثلاثا إلا ومعها ذو محرم } وفي لفظ لهما { فوق ثلاث } وفي لفظ للبخاري { ثلاثة أيام } فإن قيل : هذه عامة في كل سفر فإنما تنتظم المتنازع فيه ، وهو سفر الحاج بعمومه لكنه قد خص منه سفر المهاجرة والمأسورة فيخص منه سفر الحج أيضا قياسا عليه بجامع أنه سفر واجب ، ويصير الداخل تحت اللفظ مرادا السفر المباح .

قلنا : لا يمكن إخراج المتنازع فيه لأن في عينه نصا يفيد أنه مراد بالعام ، وهو ما رواه البزار من حديث ابن عباس : حدثنا عمرو بن عدي ، حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج ، أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع معبدا مولى ابن عباس رضي الله عنهما يحدث عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 421 ] قال { لا تحج امرأة إلا ومعها محرم ، فقال رجل : يا نبي الله إني اكتتبت . في غزوة كذا وامرأتي حاجة ، قال : ارجع فحج معها } وأخرجه الدارقطني أيضا عن حجاج عن ابن جريج به ولفظه { لا تحجن امرأة إلا ومعها ذو محرم } فثبت تخصيص العمومات بما روينا على أنهم خصوها بوجود الرفقة ، والنساء الثقات فيما روينا أولى ، وبه يظهر فساد القياس الذي عينوه لأنه يعارض النص ، بل نقول : الآية العامة لا تتناول النساء حال عدم الزوج والمحرم معها لأن المرأة لا تستطيع النزول والركوب إلا مع من يركبها وينزلها ، ولا يحل ذلك إلا للمحرم والزوج ، فلم تكن مستطيعة في هذه الحالة فلا يتناولها النص .

وهذا هو الغالب فلا يعتبر ثبوت القدرة على ذلك في بعضهن ولو قدرت فالقدرة عليه مع أمن انكشاف شيء مما لا يحل لأجنبي النظر إليه كعقبها ورجلها وطرف ساقها وطرف معصمها لا يتحقق إلا بالمحرم ليباشرها في هذه الحالة ويسترها ، ولانتفاء وجود الجامع فيهما فإن الموجود من المهاجرة والمأسورة ليس سفرا لأنها لا تقصد مكانا معينا ، بل النجاة خوفا من الفتنة ، فقطعها المسافة كقطع السابح ، ولذا إذا وجدت مأمنا كعسكر من المسلمين وجب أن تقر ولا تسافر إلا بزوج أو محرم .

على أنها لو قصدت مكانا معينا لا يعتبر قصدها ، ولا يثبت السفر به ، لأن حالها وهو ظاهر قصد مجرد التخلص يبطل عزيمتها على ما عرف في العسكر الداخل أرض الحرب ، ولو سلم ثبوت سفرها فهو للاضطرار لأن الفتنة المتوقعة في سفرها أخف من المتوقعة في إقامتها في دار الحرب ، فكان جوازه بحكم الإجماع على أن أخف المفسدتين يجب ارتكابها عند لزوم إحداهما ، فالمؤثر في الأصل السفر المضطر إليه دفعا لمفسدة تفوق مفسدة عدم المحرم والزوج في السفر في دار الإسلام ، وهو منتف في الفرع ، ولهذا يجوز مع العدة بخلاف سفر الحج تمنعه العدة فيمنعه عدم المحرم كالسفر المباح .

وأما حديث عدي بن حاتم ، فليس فيه بيان حكم الخروج فيه ما هو ولا يستلزمه ، بل بيان انتشار الأمن ، ولو كان مفيدا للإباحة كان نقيض قولهم فإنه يبيح الخروج بلا رفقة ونساء ثقات ( قوله لأنه يباح لها الخروج إلى ما دون مدة السفر بغير محرم ) يعني إذا كان لحاجة . ويشكل عليه ما في الصحيحين عن قزعة عن أبي سعيد الخدري مرفوعا { لا تسافر المرأة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم منها } وأخرجا عن أبي هريرة مرفوعا { لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم عليها } وفي لفظ لمسلم { مسيرة ليلة } .

وفي لفظ " يوم " وفي لفظ لأبي داود " بريدا " وهو عند ابن حبان في صحيحه والحاكم ، وقال : [ ص: 422 ] صحيح على شرط مسلم . وللطبراني في معجمه { ثلاثة أميال } فقيل له : إن الناس يقولون : ثلاثة أيام ، فقال : وهموا .

قال المنذري : ليس في هذه تباين . فإنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قالها في مواطن مختلفة بحسب الأسئلة . ويحتمل أن يكون ذلك كله تمثيلا لأقل الأعداد ، واليوم الواحد أول العدد وأقله . والاثنان أول الكثير وأقله ، والثلاث أول الجمع فكأنه أشار أن مثل هذا في قلة الزمن لا يحل لها السفر مع غير محرم فكيف بما زاد ا هـ . وحاصله أنه نبه بمنع الخروج أقل كل عدد على منع خروجها عن البلد مطلقا إلا بمحرم أو زوج ، وقد صرح بالمنع مطلقا إن حمل السفر على اللغوي .

في الصحيحين عن أبي معبد عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا { لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم } والسفر لغة ينطلق على ما دون ذلك . وقد روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف كراهة الخروج لها مسيرة يوم بلا محرم ، ثم إذا كان المذهب إباحة خروجها ما دون الثلاثة بغير محرم فليس للزوج منعها إذا كان بينها وبين مكة أقل من ثلاثة أيام إذا لم تجد محرما ( قوله لأن في الخروج تفويت حقه ) وحق العبد مقدم على ما عرف ، وصار كالحج الذي نذرته له منعها منه ( ولنا أن حق الزوج لا يظهر في حق الفرائض ) وإن امتدت .

( والحج منها ) كالصوم ، وهذا لأن ملكه ملك ضعيف لا ينتهض سببا في ذلك بخلاف ملك العبد ، وإنما لا يظهر في الحج المنذور لأن وجوبه بسبب من جهتها فلا يظهر الوجوب في حقه فكان نفلا في حقه ، وإذا أحرمت نفلا بغير إذنه فله أن يحللها ، وهو بأن ينهاها ويصنع بها أدنى ما يحرم عليها كقص ظفرها ونحوه ، ومجرد نهيها لا يقع به التحليل كما لا يقع بقوله : حللتك ، ولا يتأخر إلى ذبح الهدي بخلاف الإحصار ، ولها أن تخرج مع كل محرم سواء كان بنسب أو رضاع أو صهرية مسلما أو كافرا أو عبدا إلا أن يعتقد حل مناكحتها كالمجوسي أو يكون فاسقا إذ لا تؤمن معه الفتنة أو صبيا .

( قوله واختلفوا إلخ ) ثمرته تظهر في وجوب الوصية بالحج إذا مات مثلا قبل أمن الطريق ، أو هي قبل وجود المحرم أو نفقته على القول باشتراطها ، فمن قال : إن ذلك شرط الوجوب يقول : لا يجب الإيصاء لأن الموت قبل الوجوب . ومن قال : بأنها شرط الأداء قال : يجب لأن الموت بعد الوجوب ، وإنما عذرت في التأخير وفي وجوب التزوج عليها بمن يحج بها إن لم تجد محرما ، وأما وجوب نفقة المحرم وراحلته إذا أبى أن يحج إلا أن تقوم له بذلك وهو محمل الاختلاف في وجوب نفقته عليها ، قال الطحاوي : لا تجب .

هو قول أبي حفص البخاري ما لم يخرج المحرم بنفقته ، لأن الواجب عليها الحج لا إحجاج غيرها [ ص: 423 ] وقال القدوري تجب لأنها من مؤن حجها .




الخدمات العلمية