الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون

هذا وصف حال الأشياء يوم القيامة عقب النفخ في الصور، والرؤية هي بالعين، وهذه الحال للجبال في أول الأمر تسير وتموج، وأمر الله تبارك وتعالى بنسفها ونفشها خلال ذلك فتصير كالعهن، ثم تصير في آخر الأمر هباء منبثا. و "الجمود": التصام في الجوهر، قال ابن عباس : "جامدة": قائمة، ونظيره قول الشاعر :


بأرعن مثل الطود تحسب أنهم وقوف لحاج والركاب تهملج



[ ص: 565 ] و صنع الله مصدر معرف، والعامل فيه فعل مضمر من لفظه، وقيل: هو نصب على الإغراء، بمعنى: انظروا صنع الله، و "الإتقان": الإحسان في المعمولات، وأن تكون حسانا وثيقة القوة. وقرأ أبو جعفر ، وأبو عمرو ، وابن عامر : "يفعلون" بالياء، وقرأ الباقون: "تفعلون" بالتاء على الخطاب.

و "الحسنة": الإيمان، وقال الحسن ، وابن عباس ، والنخعي ، وقتادة : هي لا إله إلا الله ، وروي عن علي بن الحسين أنه قال: كنت في بعض خلواتي، فرفعت صوتي بـ "لا إله إلا الله"، فسمعت قائلا يقول: إنها الكلمة التي قال الله فيها: من جاء بالحسنة فله خير منها ، وقوله: خير منها يحتمل أن يكون للتفضيل، ويكون في قوله: "منها" حذف مضاف تقديره: خير من قدرها أو استحقاقها، بمعنى أن الله تعالى تفضل عليه بفوق ما تستحق حسنته، قال ابن زيد : يعطى بالواحدة عشرة، والداعية إلى هذا التقدير أن الحسنة لا يتصور بينها وبين الثواب تفضيل، ويحتمل أن يكون "خير" ليس للتفضيل، بل اسم للثواب والنعمة، ويكون قوله: "منها" لابتداء الغاية، أي: هذا الجزاء الذي يكون له هو من حسنته وبسببها، هذا قول الحسن ، وابن جريج ، وقال عكرمة : ليس شيء خيرا من لا إله إلا الله، وإنما له الخير منها،.

وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : "من فزع يومئذ" بالإضافة، ثم اختلفوا في فتح الميم وكسرها من "يومئذ"، فقرأ أكثرهم بفتح الميم على بناء الظرف لما أضيف إلى غير ممكن، وقرأ إسماعيل بن جعفر عن نافع بكسر الميم على إعمال الإضافة; وذلك أن الظروف إذا أضيفت إلى غير ممكن جاز بناؤها وإعمال الإضافة فيها، ومن ذلك قول الشاعر :


على حين عاتبت المشيب على الصبا     وقلت ألما أصح والشيب وازع



[ ص: 566 ] فإنه يروى: "على حين" بفتح النون، و "على حين" بكسرها، وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : "من فزع" بالتنوين وترك الإضافة، ولا يجوز -مع هذه القراءة- إلا فتح الميم من "يومئذ".

و "السيئة" التي هي في هذه الآية هي الكفر والمعاصي ممن حتم الله تعالى عليه من أهل المشيئة بدخول النار، و "كبت" معناه: تلت في النار، وجاء هذا كبا من حيث خلقها في الدنيا يعطي ارتفاعها، وإذا كبت الوجوه فسائر البدن أدخل في النار; إذ الوجه موضع الشرف والحواس. وقوله: هل تجزون بمعنى: فقال لهم ذلك، وهذا على جهة التوبيخ.

وقوله: إنما أمرت بمعنى: قل يا محمد لقومك: إنما أمرت، و "البلدة المشار إليها مكة ، وقرأ جمهور الناس: "الذي حرمها"، وقرأ ابن عباس ، وابن مسعود : "التي حرمها"، وأضاف -في هذه الآية- التحريم إلى الله تعالى من حيث ذلك بقضائه وسابق علمه، وأضاف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك إلى إبراهيم في قوله: إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة من حيث كان ظاهر ذلك بدعائه ورغبته وتبليغه لأمته، فليس بين الآية والحديث تعارض. وفي قوله: "حرمها" تعديد نعمته على قريش في رفع الله تعالى عن [ ص: 567 ] بلدهم الغارات والفتن الشائعة في جميع بلاد العرب .

وقوله تعالى: وله كل شيء معناه: بالملك والعبودية. وقرأ جمهور الناس: "أن أتلو" عطفا على قوله: " أن أكون " ، وقرأ ابن مسعود : "وأن اتل القرآن" بمعنى: وأن قيل لي: اتل القرآن، و "اتل" معناه: تابع بقراءتك بين آياته واسرد. وتلاوة القرآن سبب الاهتداء إلى كل خير.

وقوله تعالى: فمن اهتدى معناه: من تكسب الهدى والإيمان ونظر نظرا ينجيه فلنفسه سعيه.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

فنسبة الهدى والضلال إلى البشر من هذه الآية إنما هي بالتكسب والحرص والحال التي عليها يقع الثواب والعقاب، والكل أيضا من الله تعالى بالاختراع.

وقوله تعالى: سيريكم آياته توعد بعذاب الدنيا كبدر والفتح ونحوه، وبعذاب الآخرة. وقرأ جمهور القراء: "عما يعملون" بالياء، وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : "عما تعملون" بالتاء من فوق على مخاطبتهم.

كمل تفسير سورة النمل والحمد لله رب العالمين

التالي السابق


الخدمات العلمية