الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وهو سبحانه قال: يؤلون من نسائهم . والإيلاء هو اليمين، وهو القسم، وهو الحلف، يقال آلى وائتلى، كقوله ولا يأتل أولو الفضل منكم ، ويقال: تألى يتألى. وهو سبحانه عداه بحرف "من" فقال: من نسائهم ، وكذلك الاستعمال، كقول عائشة رضي الله عنها: "آلى من نسائه شهرا" ، وهذا استعمال الناس كافة يقولون "آلى من نسائه".

فحكى ابن الأنباري عن بعض اللغويين أنه قال: "من" بمعنى في أو على، والتقدير: يحلفون على وطء نسائهم، فحذف الوطء وأقام النساء مقامه، وقيل: تقديره يولون أي: يعتزلون من نسائهم.

وكلاهما ضعيف، لأن حروف المعاني لا يقوم بعضها مقام بعض عند البصريين، لأنه لو صرح فقال: يحلفون على وطء نسائهم، لم يدل على أنه حلف لا يطأ، بل هذا يفهم منه أنه حلف على الفعل، والحذف إن لم يكن في الكلام ما يدل عليه كان غير جائز.

وأيضا فإنه يقال: اعتزل امرأته، لا يقال: اعتزل منها. لكن قوله يؤلون من نسائهم كقوله الذين يظاهرون منكم من نسائهم و والذين يظاهرون من نسائهم . [ ص: 374 ]

وكلاهما مضمن معنى الامتناع، فإن المولي يمتنع باليمين من امرأته، وكذا المظاهر يمتنع بالظهار من امرأته، وكلاهما مقصوده الامتناع والبعد والنفور منها والهرب منها والتخلص منها والفرار منها، فمن هي لابتداء الغاية، ولكن الفعل هنا قد ترك.

وإذا قلت: سرت من مكة إلى المدينة فالمجرور بمن مبدأ الفعل، كذلك إذا قلت: غضبت من هذا، أو خفت من هذا، أو حذرت من هذا، أو فزعت من هذا ونحو ذلك، كان المجرور هو مبدأ الغاية للفعل المذكور، والمولي والمظاهر هو تارك للمرأة، والمولي ممتنع من وطئها، وإنما يكون بسبب منها، وإن كانت قد تكون مظلومة لكونه يبغضها ويغضب منها وينفر عنها، وإن كانت مظلومة، فبكل حال هو ممتنع منها أي من وطئها، وهو نافر منها. لكنه في الإيلاء هو ممتنع باليمين، وفي الظهار ممتنع بتحريمها لما شبهها بأمه التي تحرم عليه. ولهذا كانوا يعدون هذا وهذا في الجاهلية طلاقا، إذ لم يكن في شرعهم كفارة يمين ولا كفارة ظهار، فمتى حرمها فلا تحرم إلا بالطلاق، ومتى ألزمته اليمين ترك وطأها، فالزوجة لا تكون ممنوعا من وطئها، فإذا زال لازم النكاح زال.

والله سبحانه في البقرة ذكر الأيمان ثم الطلاق، كما أنه في سورتي التحريم والطلاق ذكر الأيمان ثم الطلاق، وفرق بين الأيمان والطلاق هاهنا وهاهنا، وهو مما يبين الفرق بين الأيمان والطلاق، كما قد بسط في غير هذا الموضع ، ويبين أن الحلف بالطلاق من باب الأيمان لا من باب الطلاق، كما أن الحلف بالنذر من باب الأيمان لا [ ص: 375 ] من باب النذر، وكذلك الحلف بالكفر من باب الأيمان لا من باب الكفر، وطرده الحلف بالعتاق والظهار والحرام.

وهو سبحانه في سورة المائدة ذكر كفارة الأيمان، وفي سورة التحريم أحال عليها فقال: قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم . وأما البقرة فنزلت قبل المائدة، فذكر فيها النهي أن يجعلوا الله عرضة لأيمانهم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس ، فتضمنت النهي عن أن يجعل الحلف بالله مانعا من فعل الخير، لكن هذا يقتضي في أول الأمر النهي عن الحلف على ذلك حين لم تشرع الكفارة، فلما شرعت الكفارة صار النهي عن جعل هذه اليمين مانعة من فعل ما يحبه الله، فإنه إما أن لا يحلف بها فيجعلها مانعة، وإما أنه إذا حلف لا يجعل الحلف بها مانعا، فإن الكفارة مشروعة عن اليمين.

ولهذا تنوعت عبارات المفسرين للآية، قال أبو الفرج : وفي معنى الآية ثلاثة أقوال:

أحدها: أن معناها لا تحلفوا بالله أن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس. هذا قول ابن عباس ومجاهد وعطاء وابن جبير وإبراهيم والضحاك وقتادة والسدي ومقاتل والفراء وابن قتيبة والزجاج وآخرين.

والثاني: أن معناها لا تحلفوا بالله كاذبين لتتقوا المخلوقين وتبروهم وتصلحوا بينهم بالكذب. روى هذا المعنى عطية عن ابن عباس.

التالي السابق


الخدمات العلمية