الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ضعف المذاهب والدين ودسائس الأجانب في المسلمين :

                          ضعفت في هذا العصر عصبية المذاهب نفسها ولا سيما في الفروع ، من حيث إنها لم تعد من وسائل سعة الرزق ولا عرض الجاه بالمناصب والجلوس على منصات الحكم - وإنما كانت العصبية لذلك - ويضعف الدين نفسه فإن الجهل بحقيقته صار عاما ، وصنف العلماء أعماهم [ ص: 200 ] التقليد عن النظر في مصالح الأمة والسير بالقضاء والإدارة والسياسة على ما تجدد لها من هذه المصالح ، وما استهدفت له من الغوائل والمفاسد ، حتى اقتنع حكامها الجاهلون في أكثر البلاد بأن شريعتها لم تعد كافية للاعتماد عليها في ذلك ، فصاروا يقلدون الإفرنج فيما اشترعوا لأنفسهم من القوانين التي يرونها موافقة لعاداتهم وآدابهم وعقائدهم وتقاليدهم وإن لم تكن موافقة للمسلمين في شيء من ذلك ، ولم يعقلوا ما في هذا التقليد من المفاسد السياسية والاجتماعية المضعفة للأمة في دينها ودنياها ، بل حسبوا بجهلهم وبإغواء الطامعين فيهم لهم أنهم بهذا يتفصون من عقال الشرع وسيطرة رجاله الجامدين ، فيكون أمر حكومتهم بأيديهم يتصرفون فيها كما يشاءون ، ويكونون كالدول الأوروبية في عزتها وثروتها ، فكانت عاقبة هذا الإغواء أن سلبهم أولئك المغوون ملكهم وجعلوهم أسلحة وآلات بأيديهم ، يذلون بهم أممهم وشعوبهم ، ويضربون بعضها ببعض ، فلم يستطيعوا أن يقضوا على استقلال مملكة إسلامية إلا بمساعدة فريق من أهلها . أو من الشعوب الإسلامية المتصلة بها ، وفاقا لما وعد الله تعالى به النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ثوبان في صحيح مسلم وكتب السنن " وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ( سلطتهم وملكهم ) ولو اجتمع عليهم من بأقطارها ، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا " ومن اطلع على تاريخ استعمار الأجانب للممالك الإسلامية من أوله إلى هذه الأيام يرى مصداق هذا في غرب تلك البلاد وشرقها .

                          وقد اجتهد أولئك الطامعون المغوون بإفساد أفكار الشعوب الإسلامية وقلوبها ، كما اجتهدوا في دس الدسائس لإفساد سلاطينها وأمرائها ، لئلا ترجع إلى هداية القرآن فتجتمع كلمتها وتصلح حكومتها ، فتكون أمما عزيزة يتعذر استعبادها . فبثوا فيها دعاة الدين لتشكيكها في القرآن والنبوة واستمالتها إلى دينهم الذي قل من بقي له ثقة به من ساستهم وعلمائهم ، ومنهم من يشككها في أصل الدين ، أي وجود الإله وبعثة الرسل . كما بثوا فيها دعاة السياسة يرغبونها في قطع الرابطة الدينية التي تربط بعضها ببعض واستبدال الرابطة الجنسية أو الوطنية بها . فكان عاقبة ذلك وقوع العداوة والبغضاء بين الترك والفرس ، ثم بين الترك وبين الألبان والعرب . بل صار أهل الجنس الواحد الذي تضمه رابطة الدين ورابطة اللغة ورابطة العادات وغيرها يتعادى باسم الوطنية ، فيعد المصري أخاه السوري والحجازي دخيلا في بلاده .

                          فهذا النوع من التفرق إذا لم يكن من التفريق للدين في إحدى القراءتين في الآية ، فهو من المفارقة له في القراءة الأخرى وهي شر الأمرين ، فإنه ترك لهدايته في وحدة الأمة وأخوة الدين وإقامة الشريعة وحفظها . غير هؤلاء المسلمون بفساد أمرائهم وزعمائهم ما بأنفسهم فغير الله ما بهم وسلبهم عزهم وسلطانهم ، وما ظلمهم بذلك ولكن ظلموا أنفسهم بعد أن [ ص: 201 ] أنذرهم وحذرهم فكانوا من الأخسرين أعمالا : ( الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) ( 18 : 104 )

                          بين الله تعالى لهم في كتابه سننه في الأمم - ومنها هلاك المتفرقة - وأنها لا تتبدل ولا تتحول ، ولكنهم هجروا الكتاب حتى إن رجال الدين منهم تركوا إرشاد الحكام والأمة به ، بل استغنوا عن هدايته بتقليد شيوخهم . وأيدوا الحكام وأقروهم على ضلالهم لأجل ما بأيديهم من فضلات الرزق ومظاهر الجاه .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية