الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في استلحاق ولد الزنى وتوريثه

ذكر أبو داود في " سننه " من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا مساعاة في الإسلام ، من ساعى في الجاهلية فقد لحق بعصبته ، ومن ادعى ولدا من غير رشدة فلا يرث ولا يورث ) .

المساعاة الزنى ، وكان الأصمعي يجعلها في الإماء دون الحرائر ، لأنهن يسعين لمواليهن ، فيكتسبن لهم ، وكان عليهن ضرائب مقررة ، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم المساعاة في الإسلام ، ولم يلحق النسب بها ، وعفا عما كان في الجاهلية منها ، وألحق النسب به . وقال الجوهري : يقال زنى الرجل وعهر ، فهذا قد يكون في الحرة والأمة ، ويقال في الأمة خاصة : قد ساعاها . ولكن في إسناد هذا الحديث رجل مجهول ، فلا تقوم به حجة .

وروى أيضا في " سننه " من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده " أن [ ص: 383 ] النبي صلى الله عليه وسلم ( قضى أن كل مستلحق استلحق ) بعد أبيه الذي يدعى له ادعاه ورثته ، فقضى أن كل من كان من أمة يملكها يوم أصابها فقد لحق بمن استلحقه ، وليس له مما قسم قبله من الميراث ، وما أدرك من ميراث لم يقسم فله نصيبه ، ولا يلحق إذا كان أبوه الذي يدعى له أنكره ، وإن كان من أمة لم يملكها أو من حرة عاهر بها فإنه لا يلحق ولا يرث ، وإن كان الذي يدعى له هو ادعاه ، فهو من ولد زنية من حرة كان أو أمة .

وفي رواية : وهو ولد زنى لأهل أمه من كانوا - حرة أو أمة . وذلك فيما استلحق في أول الإسلام ، فما اقتسم من مال قبل الإسلام فقد مضى " وهذا لأهل الحديث في إسناده مقال ؛ لأنه من رواية محمد بن راشد المكحولي .

وكان قوم في الجاهلية لهم إماء بغايا ، فإذا ولدت أمة أحدهم وقد وطئها غيره بالزنى فربما ادعاه سيدها ، وربما ادعاه الزاني واختصما في ذلك ، حتى قام الإسلام ، فحكم النبي صلى الله عليه وسلم بالولد للسيد ؛ لأنه صاحب الفراش ، ونفاه على الزاني .

ثم تضمن هذا الحديث أمورا :

منها : أن المستلحق إذا استلحق بعد أبيه الذي يدعى له ، ادعاه ورثته ، فإن كان الولد من أمة يملكها الواطئ يوم أصابها فقد لحق بمن استلحقه ، يعني إذا كان الذي استلحقه ورثة مالك الأمة ، وصار ابنه من يومئذ ليس له مما قسم قبله من الميراث شيء ؛ لأن هذا تجديد حكم نسبه ، ومن يومئذ يثبت نسبه ، فلا يرجع بما اقتسم قبله من الميراث ؛ إذ لم يكن حكم البنوة ثابتا ، وما أدرك من ميراث لم يقسم فله نصيبه منه ؛ لأن الحكم ثبت قبل قسمه الميراث ، فيستحق منه نصيبه ، [ ص: 384 ] وهذا نظير من أسلم على ميراث قبل قسمه ، قسم له في أحد قولي العلماء ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، وإن أسلم بعد قسم الميراث فلا شيء له ، فثبوت النسب هاهنا بمنزلة الإسلام بالنسبة إلى الميراث .

قوله : " ولا يلحق إذا كان أبوه الذي يدعى له أنكره " هذا يبين أن التنازع بين الورثة ، وأن الصورة الأولى أن يستلحقه ورثة أبيه الذي كان يدعى له ، وهذه الصورة إذا استلحقه ورثته وأبوه الذي يدعى له كان ينكر ، فإنه لا يلحق ؛ لأن الأصل الذي الورثة خلف عنه منكر له ، فكيف يلحق به مع إنكاره ؟ فهذا إذا كان من أمة يملكها ، أما إذا كان من أمة لم يملكها ، أو من حرة عاهر بها ، فإنه لا يلحق ولا يرث وإن ادعاه الواطئ وهو ولد زنية من أمة كان أو من حرة ، وهذا حجة الجمهور على إسحاق ومن قال بقوله : إنه لا يلحق بالزاني إذا ادعاه ، ولا يرثه ، وأنه ولد زنى لأهل أمه من كانوا ، حرة كانت أو أمة .

وأما ما اقتسم من مال قبل الإسلام فقد مضى ، ‌‌فهذا الحديث يرد قول إسحاق ومن وافقه ، لكن فيه محمد بن راشد ، ونحن نحتج بعمرو بن شعيب ، فلا يعلل الحديث به ، فإن ثبت هذا الحديث تعين القول بموجبه ، والمصير إليه ، وإلا فالقول قول إسحاق ومن معه ، والله المستعان .

التالي السابق


الخدمات العلمية