الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل

هذا ابتداء خطاب للمؤمنين للتحريض على الجهاد في سبيل الله ، بطريقة العتاب على التباطئ بإجابة دعوة النفير إلى الجهاد ، والمقصود بذلك غزوة تبوك . قال ابن [ ص: 196 ] عطية : " لا اختلاف بين العلماء في أن هذه الآية نزلت عتابا على تخلف من تخلف عن غزوة تبوك ، إذ تخلف عنها قبائل ورجال من المؤمنين ، والمنافقون " فالكلام متصل بقوله : وقاتلوا المشركين كافة وبقوله : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله فذوقوا ما كنتم تكنزون كما أشرنا إليه في تفسير تلك الآيات . وهو خطاب للذين حصل منهم التثاقل ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استنفر المسلمين إلى تلك الغزوة ، وكان ذلك في وقت حر شديد ، واستقبل سفرا بعيدا ومفازا ، حين نضجت الثمار ، وطابت الظلال ، وكان المسلمون يومئذ في شدة حاجة إلى الظهر والعدة . فلذلك سميت غزوة العسرة كما سيأتي في هذه السورة ، فجلى رسول الله للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم ، وأخبرهم بوجهه الذي يريد ، وكان قبل ذلك لا يريد غزوة إلا ورى بما يوهم مكانا غير المكان المقصود ، فحصل لبعض المسلمين تثاقل ، ومن بعضهم تخلف ، فوجه الله إليهم هذا الملام المعقب بالوعيد .

فإن نحن جرينا على أن نزول السورة كان دفعة واحدة ، وأنه بعد غزوة تبوك ، كما هو الأرجح ، وهو قول جمهور المفسرين ، كان محمل هذه الآية أنها عتاب على ما مضى وكانت إذا مستعملة ظرفا للماضي ، على خلاف غالب استعمالها ، كقوله - تعالى : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وقوله : ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد الآية ، فإن قوله : وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله صالح لإفادة ذلك ، وتحذير من العودة إليه ; لأن قوله : إلا تنفروا و إلا تنصروه و انفروا خفافا مراد به ما يستقبل حين يدعون إلى غزوة أخرى ، وسنبين ذلك مفصلا في مواضعه من الآيات .

وإن جرينا على ما عزاه ابن عطية إلى النقاش : أن قوله - تعالى : يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض هي أول آية نزلت من سورة براءة ، كانت الآية عتابا على تكاسل وتثاقل ظهرا على بعض الناس ، فكانت إذا ظرفا للمستقبل ، على ما هو الغالب فيها ، وكان قوله : إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما تحذيرا من ترك الخروج إلى غزوة تبوك ، وهذا كله بعيد مما ثبت في السيرة وما ترجح في نزول هذه السورة .

[ ص: 197 ] و " ما " في قوله : " ما لكم " اسم استفهام إنكاري ، والمعنى : أي شيء ، و " لكم " خبر عن الاستفهام أي : أي شيء ثبت لكم .

و إذا ظرف تعلق بمعنى الاستفهام الإنكاري على معنى : أن الإنكار حاصل في ذلك الزمان الذي قيل لهم فيه : انفروا ، وليس مضمنا معنى الشرط لأنه ظرف مضي .

وجملة اثاقلتم في موضع الحال من ضمير الجماعة ، وتلك الحالة هي محل الإنكار ، أي : ما لكم متثاقلين . يقال : مالك فعلت كذا ، ومالك تفعل كذا كقوله : ما لكم لا تناصرون ، ومالك فاعلا ، كقوله : فما لكم في المنافقين فئتين

والنفر : الخروج السريع من موضع إلى غيره لأمر يحدث ، وأكثر ما يطلق على الخروج إلى الحرب ، ومصدره حينئذ النفير .

وسبيل الله : الجهاد ، سمي بذلك لأنه كالطريق الموصل إلى الله ، أي إلى رضاه و اثاقلتم أصله تثاقلتم قلبت التاء المثناة ثاء مثلثة لتقارب مخرجيهما طلبا للإدغام ، واجتلبت همزة الوصل لإمكان تسكين الحرف الأول من الكلمة عند إدغامه .

والتثاقل تكلف الثقل ، أي إظهار أنه ثقيل لا يستطيع النهوض .

والثقل حالة في الجسم تقتضي شدة تطلبه للنزول إلى أسفل ، وعسر انتقاله ، وهو مستعمل هنا في البطء مجازا مرسلا ، وفيه تعريض بأن بطأهم ليس عن عجز ، ولكنه عن تعلق بالإقامة في بلادهم وأموالهم .

وعدي التثاقل بـ إلى لأنه ضمن معنى الميل والإخلاد ، كأنه تثاقل يطلب فاعله الوصول إلى الأرض للقعود والسكون بها .

والأرض ما يمشي عليه الناس .

ومجموع قوله : اثاقلتم إلى الأرض تمثيل لحال الكارهين للغزو المتطلبين للعذر عن الجهاد كسلا وجبنا بحال من يطلب منه النهوض والخروج ، فيقابل [ ص: 198 ] ذلك الطلب بالالتصاق بالأرض ، والتمكن من القعود ، فيأبى النهوض فضلا عن السير .

وقوله : إلى الأرض كلام موجه بديع : لأن تباطؤهم عن الغزو ، وتطلبهم العذر ، كان أعظم بواعثه رغبتهم البقاء في حوائطهم وثمارهم ، حتى جعل بعض المفسرين معنى اثاقلتم إلى الأرض : ملتم إلى أرضكم ودياركم .

والاستفهام في أرضيتم بالحياة الدنيا إنكاري توبيخي ، إذ لا يليق ذلك بالمؤمنين .

و من في من الآخرة للبدل : أي كيف ترضون بالحياة الدنيا بدلا عن الآخرة . ومثل ذلك لا يرضى به والمراد بالحياة الدنيا ، وبالآخرة : منافعهما ، فإنهم لما حاولوا التخلف عن الجهاد قد آثروا الراحة في الدنيا على الثواب الحاصل للمجاهدين في الآخرة .

واختير فعل رضيتم دون نحو آثرتم أو فضلتم : مبالغة في الإنكار ; لأن فعل ( رضي بكذا ) يدل على انشراح النفس ، ومنه قول أبي بكر الصديق في حديث الغار " فشرب حتى رضيت " .

والمتاع : اسم مصدر تمتع ، فهو الالتذاذ والتنعم ، كقوله : متاعا لكم ولأنعامكم ووصفه بـ " قليل " بمعنى ضعيف ودنيء . استعير القليل للتافه .

ويحتمل أن يكون المتاع هنا مرادا به الشيء المتمتع به ، من إطلاق المصدر على المفعول ، كالخلق بمعنى المخلوق فالإخبار عنه بالقليل حقيقة .

وحرف " في " من قوله : " في الآخرة " دال على معنى المقايسة ، وقد جعلوا المقايسة من معاني ( في ) كما في التسهيل والمغني ، واستشهدوا بهذه الآية أخذا من الكشاف ولم يتكلم على هذا المعنى شارحوهما ولا شارحو الكشاف ، وقد تكرر نظيره في القرآن كقوله في سورة الرعد وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث مسلم ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع وهو في التحقيق ( من ) الظرفية المجازية : أي متاع الحياة الدنيا إذا أقحم في خيرات الآخرة كان قليلا بالنسبة إلى كثرة خيرات الآخرة ، فلزم أنه ما ظهرت قلته إلا عندما قيس بخيرات عظيمة ونسب إليها ، فالتحقيق أن المقايسة معنى حاصل لاستعمال حرف الظرفية ، وليس معنى موضوعا له حرف ( في )

التالي السابق


الخدمات العلمية