الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين إذ قال يوسف لأبيه ياأبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين قال يابني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم )

[ ص: 278 ] ( القصص ) : مصدر قص ، واسم مفعول إما لتسميته بالمصدر ، وإما لكون الفعل يكون للمفعول ، كالقبض والنقص ، والقصص هنا يحتمل الأوجه الثلاثة ، فإن كان المصدر فالمراد بكونه أحسن أنه اقتص على أبدع طريقة ، وأحسن أسلوب ، ألا ترى أن هذا الحديث مقتص في كتب الأولين ، وفي كتب التواريخ ، ولا ترى اقتصاصه في كتاب منها مقاربا لاقتصاصه في القرآن ، وإن كان المفعول فكان أحسنه لما يتضمن من العبر والحكم والنكت والعجائب التي ليست في غيره ، والظاهر أنه أحسن ما يقص في بابه كما يقال للرجل : هو أعلم الناس وأفضلهم ، يراد في فنه .

وقيل : كانت هذه السورة أحسن القصص لانفرادها عن سائرها بما فيها من ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين والجن والإنس والأنعام والطير وسير الملوك والممالك والتجار والعلماء والرجال ، والنساء وكيدهن ومكرهن ، مع ما فيها من ذكر التوحيد والفقه والسير والسياسة وحسن الملكة والعفو عند المقدرة ، وحسن المعاشرة ، والحيل وتدبير المعاش ، والمعاد ، وحسن العاقبة في العفة ، والجهاد والخلاص من المرهوب إلى المرغوب ، وذكر الحبيب والمحبوب ، ومرأى السنين وتعبير الرؤيا ، والعجائب التي تصلح للدين والدنيا ، وقيل : كانت أحسن القصص ؛ لأن كل من ذكر [ ص: 279 ] فيها كان مآله إلى السعادة ، انظر إلى يوسف وأبيه وإخوته وامرأة العزيز والملك أسلم ب يوسف وحسن إسلامه ، ومعبر الرؤيا الساقي والشاهد فيما يقال ، وقيل : ( أحسن ) هنا ليست أفعل التفضيل ، بل هي بمعنى حسن ، كأنه قيل : حسن القصص ، من باب إضافة الصفة إلى الموصوف أي : القصص الحسن ، و " ما " في بـ ( ما أوحينا ) مصدرية أي : بإيحائنا ، وإذا كان القصص مصدرا فمفعول ( نقص ) من حيث المعنى هو ( هذا القرآن ) ، إلا أنه من باب الإعمال ، إذ تنازعه ( نقص ) و ( أوحينا ) فأعمل الثاني على الأكثر ، والضمير في ( من قبله ) يعود على الإيحاء ، وتقدمت مذاهب النحاة في " أن " المخففة ومجيء اللام في ثاني الجزأين ، ومعنى ( من الغافلين ) لم يكن لك شعور بهذه القصة ، ولا سبق لك علم فيها ، ولا طرق سمعك طرف منها ، والعامل في ( إذ ) قال الزمخشري وابن عطية : اذكر ، وأجاز الزمخشري أن تكون بدلا من ( أحسن القصص ) قال : وهو بدل اشتمال ؛ لأن الوقت يشتمل على القصص وهو المقصوص ، فإذا قص وقته فقد قص ، وقال ابن عطية : ويجوز أن يعمل فيه ( نقص ) كان المعنى : نقص عليك الحال إذ ، وهذه التقديرات لا تتجه حتى تخلع " إذ " من دلالتها على الوقت الماضي ، وتجرد للوقت المطلق الصالح للأزمان كلها على جهة البدلية .

وحكى مكي أن العامل في ( إذ ) ( الغافلين ) ، والذي يظهر أن العامل فيه ( قال يا بني ) ، كما تقول : إذ قام زيد قام عمرو ، وتبقى ( إذ ) على وضعها الأصلي من كونها ظرفا لما مضى ، و ( يوسف ) اسم عبراني ، وتقدمت ست لغات فيه ، ومنعه الصرف دليل على بطلان قول من ذهب إلى أنه عربي مشتق من الأسف ، وإن كان في بعض لغاته يكون فيه الوزن الغالب ، لامتناع أن يكون أعجميا غير أعجمي ، وقرأ طلحة بن مصرف بالهمز وفتح السين ، وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والأعرج : ( يا أبت ) بفتح التاء ، وباقي السبعة والجمهور بكسرها ، ووقف الابنان عليها بالهاء ، وهذه التاء عوض من ياء الإضافة فلا يجتمعان ، وتجامع الألف التي هي بدل من التاء قال :


يا أبتا علك أو عساكا

ووجه الاقتصار على التاء مفتوحة أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف ، أو رخم بحذف التاء ثم أقحمت ، قاله أبو علي ، أو الألف في أبتا للندبة ، فحذفها قاله الفراء وأبو عبيد وأبو حاتم وقطرب ، ورد بأنه ليس موضع ندبة أو الأصل " يا أبة " بالتنوين فحذف ، والنداء ( ناد ) حذف ، قاله قطرب ، ورد بأن التنوين لا يحذف من المنادى المنصوب نحو : يا ضاربا رجلا ، وفتح أبو جعفر ياء " إني " .

وقرأ الحسن و أبو جعفر وطلحة بن سليمان : ( أحد عشر ) بسكون العين لتوالي الحركات ، وليظهر جعل الاسمين اسما واحدا و ( رأيت ) هي حلمية لدلالة متعلقها على أنه منام ، والظاهر أنه رأى في منامه كواكب الشمس والقمر ، وقيل : رأى إخوته وأبويه ، فعبر عنهم بذلك ، وعبر عن الشمس عن أمه ، وقيل : عن خالته راحيل ؛ لأن أمه كانت ماتت ، ومن حديث جابر بن عبد الله : أن يهوديا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا محمد أخبرني عن أسماء الكواكب التي رآها يوسف ، فسكت عنه ، ونزل جبريل فأخبره بأسمائها ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليهودي فقال : هل أنت مؤمن إن أخبرتك بذلك ؟ فقال : نعم . قال : جريان ، والطارق ، والذيال ، وذو الكتفين ، وقابس ، ووثاب ، وعمودان ، والفليق ، والمصبح ، والضروح ، والفرغ ، والضياء ، والنور . فقال اليهودي : إي والله إنها لأسماؤها ، وذكر السهيلي مسندا إلى الحارث بن أبي أسامة فذكر الحديث ، وفيه بعض اختلاف ، وذكر النطح عوضا عن المصبح ، وعن وهب أن يوسف رأى وهو ابن سبع سنين أن إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدارة ، وإذا عصا صغيرة تثب عليها حتى اقتلعتها وغلبتها ، فوصف ذلك لأبيه فقال : إياك أن تذكر هذا لإخوتك ، ثم رأى وهو ابن ثنتي عشرة سنة الشمس والقمر والكواكب سجودا له فقصها على أبيه فقال له : لا تقصها عليهم فيبغوا [ ص: 280 ] لك الغوائل ، وكان بين رؤيا يوسف ومسير إخوته إليه أربعون سنة ، وقيل : ثمانون ، وروي أن رؤيا يوسف كانت ليلة القدر ليلة جمعة ، والظاهر أن الشمس والقمر ليسا مندرجين في الأحد عشر كوكبا ، ولذلك حين عدهما الرسول لليهودي ذكر أحد عشر كوكبا غير الشمس والقمر ، ويظهر من كلام الزمخشري أنهما مندرجان في الأحد عشر .

قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : لم أخر الشمس والقمر ؟ ( قلت ) : أخرهما ليعطفهما على الكواكب على طريق الاختصاص إثباتا لفضلهما ، واستبدادهما بالمزية على غيرهما من الطوالع ، كما أخر جبريل وميكائيل عن الملائكة ثم عطفهما عليهما لذلك ، ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع ؛ أي : رأيت الكواكب مع الشمس والقمر ، انتهى . والذي يظهر أن التأخير إنما هو من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى ، ولم يقع الترقي في الشمس والقمر جريا على ما استقر في القرآن من أنه إذا اجتمعا قدمت عليه ، قال تعالى : ( الشمس والقمر بحسبان ) ، وقال : ( وجمع الشمس والقمر ) ، ( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا ) وقدمت عليه لسطوع نورها وكبر جرمها وغرابة سيرها ، واستمداده منها ، وعلو مكانها ، والظاهر أن ( رأيتهم ) كرر على سبيل التوكيد للطول بالمفاعيل ، كما كرر " إنكم " في قوله : ( إنكم مخرجون ) لطول الفصل بالظرف وما تعلق به .

وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى تكرار ( رأيتهم ) ؟ ( قلت ) : ليس بتكرار ، إنما هو كلام مستأنف على تقدير سؤال وقع جوابا له ، كان يعقوب - عليه السلام - قال له عند قوله : ( إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ) كيف رأيتها سائلا عن حال رؤيتها ؟ فقال : ( رأيتهم لي ساجدين ) انتهى . وجمعهم جمع من يعقل ؛ لصدور السجود له ، وهو صفة من يعقل ، وهذا سائغ في كلام العرب ، وهو أن يعطي الشيء حكم الشيء للاشتراك في وصف ما ، وإن كان ذلك الوصف أصله أن يخص أحدهما . والسجود : سجود كرامة ، كما سجدت الملائكة لآدم ، وقيل : كان في ذلك الوقت السجود تحية بعضهم لبعض ، ولما خاطب يوسف أباه بقوله : ( يا أبت ) وفيه إظهار الطواعية والبر والتنبيه على محل الشفقة بطبع الأبوة خاطبه أبوه بقوله : ( يا بني ) تصغير التحبيب والتقريب والشفقة ، وقرأ حفص هنا وفي لقمان والصافات : ( يا بني ) بفتح الياء ، وابن كثير في لقمان ( يابني لا تشرك ) وقنبل ( يا بني أقم ) بإسكانها ، وباقي السبعة بالكسر ، وقرأ زيد بن علي : ( لا تقص ) مدغما ، وهي لغة تميم ، والجمهور بالفك وهي لغة الحجاز ، والرؤيا مصدر كالبقيا . وقال الزمخشري : الرؤيا بمعنى الرؤية ، إلا أنها مختصة بما كان في النوم دون اليقظة ، فرق بينهما بحرفي التأنيث كما قيل : القربة والقربى ، انتهى . وقرأ الجمهور : ( رؤياك ) ، والرؤيا حيث وقعت بالهمز من غير إمالة ، وقرأ الكسائي : بالإمالة وبغير الهمز ، وهي لغة أهل الحجاز .

وإخوة يوسف : هم كاذ ، وبنيامين ، ويهوذا ، ونفتالي ، وزبولون ، وشمعون ، وروبين ، ويقال باللام كجبريل ، وجبرين ، ويساخا ، ولاوي ، وذان ، وياشير ، ( فيكيدوا لك ) منصوب بإضمار " أن " على جواب النهي ، وعدي ( فيكيدوا ) باللام ، وفي " فكيدون " بنفسه ، فاحتمل أن يكون من باب شكرت زيدا وشكرت لزيد ، واحتمل أن يكون من باب التضمين ، ضمن ( فيكيدوا ) معنى ما يتعدى باللام ، فكأنه قال : فيحتالوا لك بالكيد ، والتضمين أبلغ لدلالته على معنى الفعلين ، وللمبالغة أكد بالمصدر . ونبه يعقوب على سبب الكيد وهو : ما يزينه الشيطان للإنسان ويسوله له ، وذلك للعداوة التي بينهما ، فهو يجتهد دائما أن يوقعه في المعاصي ويدخله فيها ويحضه عليها ، وكان يعقوب دلته رؤيا يوسف - عليهما السلام - على أن الله تعالى يبلغه مبلغا من الحكمة ، ويصطفيه للنبوة ، وينعم عليه بشرف الدارين كما فعل بآبائه ، فخاف عليه من حسد إخوته ، فنهاه من أن يقص رؤياه لهم ، وفي خطاب يعقوب ليوسف تنهية عن أن [ ص: 281 ] يقص على إخوته مخافة كيدهم ، دلالة على تحذير المسلم أخاه المسلم ممن يخافه عليه ، والتنبيه على بعض ما لا يليق ، ولا يكون ذلك داخلا في باب الغيبة ، ( وكذلك يجتبيك ربك ) أي : مثل ذلك الاجتباء ، وهو ما أراه من تلك الرؤيا التي دلت على جليل قدره ، وشريف منصبه ، ومآله إلى النبوة والرسالة والملك ، و ( يجتبيك ) : يختارك ربك للنبوة والملك ، قال الحسن : للنبوة . وقال مقاتل : للسجود لك . وقال الزمخشري : لأمور عظام . ( ويعلمك من تأويل الأحاديث ) كلام مستأنف ليس داخلا في التشبيه ، كأنه قال : وهو يعلمك ، قال مجاهد والسدي : ( تأويل الأحاديث ) عبارة الرؤيا ، وقال الحسن : عواقب الأمور ، وقيل : عامة لذلك ولغيره من المغيبات ، وقال مقاتل : غرائب الرؤيا ، وقال ابن زيد : العلم والحكمة .

وقال الزمخشري : ( الأحاديث ) الرؤى ؛ لأن الرؤى إما حديث نفس أو ملك أو شيطان ، وتأويلها عبارتها وتفسيرها ، فكان يوسف - عليه السلام - أعبر الناس للرؤيا وأصحهم عبارة ، ويجوز أن يراد بتأويل الأحاديث معاني كتب الله وسير الأنبياء ، وما غمض واشتبه على الناس في أغراضها ومقاصدها ، يفسرها لهم ويشرحها ، ويدلهم على مودعات حكمها ، وسميت أحاديث ؛ لأنها تحدث بها عن الله ورسله فيقال : قال الله : وقال الرسول : كذا وكذا ، ألا ترى إلى قوله : ( فبأي حديث بعده يؤمنون ) ( الله نزل أحسن الحديث كتابا ) وهي اسم جمع للحديث ، وليس بجمع أحدوثة ، انتهى . وليس باسم جمع كما ذكر ، بل هو جمع تكسير لحديث على غير قياس ، كما قالوا : أباطل وأباطيل ، ولم يأت اسم جمع على هذا الوزن ، وإذا كانوا يقولون في عباديد ويناذير أنهما جمعا تكسير ولم يلفظ لهما بمفرد ، فكيف لا يكون أحاديث وأباطيل جمعي تكسير ؟

( ويتم نعمته عليك ) وإتمامها بأنه تعالى وصل لهم نعمة الدنيا - بأن جعلهم أنبياء وملوكا - بنعمة الآخرة - بأن نقلهم إلى أعلى الدرجات في الجنة - ، وقال مقاتل : بإعلاء كلمتك وتحقيق رؤياك ، وقال الحسن : هذا شيء أعلمه الله يعقوب من أنه سيعطي يوسف النبوة ، وقيل : بأن يحوج إخوتك إليك ، فتقابل الذنب بالغفران ، والإساءة بالإحسان ، وقيل : بإنجائك من كل مكروه ، و ( آل يعقوب ) الظاهر أنه أولاده ونسلهم ؛ أي : نجعل النبوة فيهم ، وقال الزمخشري : هم نسلهم وغيرهم ، وقيل : أهل دينه وأتباعهم ، كما جاء في الحديث : من آلك ؟ فقال : ( كل تقي ) وقيل : امرأته وأولاده الأحد عشر ، وقيل : المراد يعقوب نفسه خاصة ، وإتمام النعمة على إبراهيم بالخلة ، والإنجاء من النار ، وإهلاك عدوه نمروذ ، وعلى إسحاق بإخراج يعقوب والأسباط من صلبه ، وسمي الجد وأبو الجد أبوين ؛ لأنهما في عمود النسب كما قال : ( وإله آبائك ) ولهذا يقولون : ابن فلان ، وإن كان بينهما عدة في عمود النسب ، ( إن ربك عليم ) بمن يستحق الاجتباء ، ( حكيم ) يضع الأشياء مواضعها ، وهذان الوصفان مناسبان لهذا الوعد الذي وعده يعقوب و يوسف - عليهما الصلاة والسلام - في قوله : ( وكذلك يجتبيك ربك ) قيل : وعلم يعقوب - عليه السلام - ذلك من دعوة إسحاق - عليه السلام - حين تشبه له بعيصو .

التالي السابق


الخدمات العلمية