الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وهناك ظاهرة أخرى في الأداء التعبيري لهذا الجزء. هناك أناقة واضحة في التعبير، مع اللمسات المقصودة لمواطن الجمال في الوجود والنفوس، وافتنان مبدع في الصور والظلال والإيقاع الموسيقي والقوافي والفواصل، تتناسق كلها مع طبيعته في خطاب الغافلين النائمين السادرين، لإيقاظهم واجتذاب حسهم وحواسهم بشتى الألوان وشتى الإيقاعات وشتى المؤثرات.. يتجلى هذا كله بصورة واضحة في مثل تعبيره اللطيف عن النجوم التي تخنس وتتوارى كالظباء في كناسها وتبرز، وعن الليل وكأنه حي يعس في الظلام، والصبح وكأنه حي يتنفس بالنور: فلا أقسم بالخنس، الجوار الكنس والليل إذا عسعس. والصبح إذا تنفس وفي عرضه لمشاهد الغروب والليل والقمر: فلا أقسم بالشفق، والليل وما وسق، والقمر إذا اتسق . أو لمشاهد الفجر والليل وهو يتمشى ويسري: والفجر. وليال عشر. والشفع والوتر. والليل إذا يسر . والضحى. والليل إذا سجى . وفي خطابه الموحي للقلب البشري: يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم؟ الذي خلقك فسواك فعدلك.. وفي وصف الجنة: وجوه يومئذ ناعمة، لسعيها راضية، في جنة عالية، لا تسمع فيها لاغية ... ووصف النار: وأما من خفت موازينه فأمه هاوية. وما أدراك ما هيه؟ نار حامية! .. والأناقة في التعبير واضحة وضوح القصد في اللمسات الجمالية لمشاهد الكون وخوالج النفس.

                                                                                                                                                                                                                                      والعدول أحيانا عن اللفظ المباشر إلى الكناية، وعن اللفظ القريب إلى الاشتقاق البعيد، لتحقيق التنغيم المقصود، مما يؤكد هذه اللفتة خلال الجزء كله على وجه التقريب..

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه السورة نموذج لاتجاه هذا الجزء بموضوعاته وحقائقه وإيقاعاته ومشاهده وصوره وظلاله وموسيقاه ولمساته في الكون والنفس، والدنيا والآخرة; واختيار الألفاظ والعبارات لتوقع أشد إيقاعاتها أثرا في الحس والضمير.

                                                                                                                                                                                                                                      وهي تفتتح بسؤال موح مثير للاستهوال والاستعظام وتضخيم الحقيقة التي يختلفون عليها، وهي أمر عظيم لا خفاء فيه، ولا شبهة ويعقب على هذا بتهديدهم يوم يعلمون حقيقته: عم يتساءلون؟ عن النبإ العظيم، الذي هم فيه مختلفون. كلا سيعلمون. ثم كلا سيعلمون! ..

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ثم يعدل السياق عن المعنى في الحديث عن هذا النبأ ويدعه لحينه، ويلفتهم إلى ما هو واقع بين أيديهم وحولهم، في ذوات أنفسهم وفي الكون حولهم من أمر عظيم، يدل على ما وراءه ويوحي بما سيتلوه: ألم نجعل الأرض مهادا، والجبال أوتادا؟ وخلقناكم أزواجا؟ وجعلنا نومكم سباتا؟ وجعلنا الليل لباسا، وجعلنا النهار معاشا؟ وبنينا فوقكم سبعا شدادا؟ وجعلنا سراجا وهاجا؟ وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا؟ لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هذا الحشد من الحقائق والمشاهد والصور والإيقاعات يعود بهم إلى ذلك النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون، والذي هددهم به يوم يعلمون! ليقول لهم ما هو؟ وكيف يكون: إن يوم الفصل كان ميقاتا. يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا. وفتحت السماء فكانت أبوابا. وسيرت الجبال فكانت سرابا ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم مشهد العذاب بكل قوته وعنفه: إن جهنم كانت مرصادا، للطاغين مآبا، لابثين فيها أحقابا، لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا. إلا حميما وغساقا. جزاء وفاقا. إنهم كانوا لا يرجون حسابا، وكذبوا بآياتنا كذابا، [ ص: 3803 ] وكل شيء أحصيناه كتابا. فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ..

                                                                                                                                                                                                                                      ومشهد النعيم كذلك وهو يتدفق تدفقا: إن للمتقين مفازا: حدائق وأعنابا، وكواعب أترابا، وكأسا دهاقا، لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا. جزاء من ربك عطاء حسابا .

                                                                                                                                                                                                                                      وتختم السورة بإيقاع جليل في حقيقته وفي المشهد الذي يعرض فيه. وبإنذار وتذكير قبل أن يجيء اليوم الذي يكون فيه هذا المشهد الجليل: رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا. يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا. ذلك اليوم الحق. فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا. إنا أنذرناكم عذابا قريبا. يوم ينظر المرء ما قدمت يداه، ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ..

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك هو النبأ العظيم. الذي يتساءلون عنه. وذلك ما سيكون يوم يعلمون ذلك النبأ العظيم!

                                                                                                                                                                                                                                      عم يتساءلون؟ عن النبإ العظيم. الذي هم فيه مختلفون. كلا! سيعلمون. ثم كلا! سيعلمون .. مطلع فيه استنكار لتساؤل المتسائلين، وفيه عجب أن يكون هذا الأمر موضع تساؤل. وقد كانوا يتساءلون عن يوم البعث ونبأ القيامة. وكان هو الأمر الذي يجادلون فيه أشد الجدل، ولا يكادون يتصورون وقوعه، وهو أولى شيء بأن يكون!

                                                                                                                                                                                                                                      عم يتساءلون؟ .. وعن أي شيء يتحدثون؟ ثم يجيب. فلم يكن السؤال بقصد معرفة الجواب منهم. إنما كان للتعجيب من حالهم وتوجيه النظر إلى غرابة تساؤلهم، بكشف الأمر الذي يتساءلون عنه وبيان حقيقته وطبيعته:

                                                                                                                                                                                                                                      عن النبإ العظيم، الذي هم فيه مختلفون .. ولم يحدد ما يتساءلون عنه بلفظه، إنما ذكره بوصفه.. النبأ العظيم.. استطرادا في أسلوب التعجيب والتضخيم.. وكان الخلاف على اليوم بين الذين آمنوا به والذين كفروا بوقوعه. أما التساؤل فكان من هؤلاء وحدهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم لا يجيب عن التساؤل، ولا يدلي بحقيقة النبأ المسؤول عنه. فيتركه بوصفه.. العظيم.. وينتقل إلى التلويح بالتهديد الملفوف، وهو أوقع من الجواب المباشر، وأعمق في التخويف:

                                                                                                                                                                                                                                      كلا! سيعلمون. ثم كلا! سيعلمون .. ولفظ كلا، يقال في الردع والزجر فهو أنسب هنا للظل الذي يراد إلقاؤه. وتكراره وتكرار الجملة كلها فيه من التهديد ما فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يبعد في ظاهر الأمر عن موضوع ذلك النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون. ليلتقي به بعد قليل. يبعد في جولة قريبة في هذا الكون المنظور مع حشد من الكائنات والظواهر والحقائق والمشاهد، تهز الكيان حين يتدبرها الجنان:

                                                                                                                                                                                                                                      ألم نجعل الأرض مهادا؟ والجبال أوتادا؟ وخلقناكم أزواجا؟ وجعلنا نومكم سباتا؟ وجعلنا الليل لباسا؟ وجعلنا النهار معاشا؟ وبنينا فوقكم سبعا شدادا؟ وجعلنا سراجا وهاجا؟ وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا؟ لنخرج به حبا ونباتا، وجنات ألفافا؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الجولة التي تتنقل في أرجاء هذا الكون الواسع العريض، مع هذا الحشد الهائل من الصور والمشاهد، تذكر في حيز ضيق مكتنز من الألفاظ والعبارات، مما يجعل إيقاعها في الحس حادا ثقيلا نفاذا، كأنه المطارق [ ص: 3804 ] المتوالية، بلا فتور ولا انقطاع! وصيغة الاستفهام الموجهة إلى المخاطبين - وهي في اللغة تفيد التقرير - صيغة مقصودة هنا، وكأنما هي يد قوية تهز الغافلين، وهي توجه أنظارهم وقلوبهم إلى هذا الحشد من الخلائق والظواهر التي تشي بما وراءها من التدبير والتقدير، والقدرة على الإنشاء والإعادة، والحكمة التي لا تدع أمر الخلائق سدى بلا حساب ولا جزاء.. ومن هنا تلتقي بالنبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون!

                                                                                                                                                                                                                                      واللمسة الأولى في هذه الجولة عن الأرض والجبال:

                                                                                                                                                                                                                                      ألم نجعل الأرض مهادا، والجبال أوتادا؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      والمهاد: الممهد للسير.. والمهاد اللين كالمهد.. وكلاهما متقارب. وهي حقيقة محسوسة للإنسان في أي طور من أطوار حضارته ومعرفته. فلا تحتاج إلى علم غزير لإدراكها في صورتها الواقعية. وكون الجبال أوتادا ظاهرة تراها العين كذلك حتى من الإنسان البدائي; وهذه وتلك ذات وقع في الحس حين توجه إليها النفس.

                                                                                                                                                                                                                                      غير أن هذه الحقيقة أكبر وأوسع مدى مما يحسها الإنسان البدائي لأول وهلة بالحس المجرد. وكلما ارتقت معارف الإنسان وازدادت معرفته بطبيعة هذا الكون وأطواره، كبرت هذه الحقيقة في نفسه; وأدرك من ورائها التقدير الإلهي العظيم والتدبير الدقيق الحكيم، والتنسيق بين أفراد هذا الوجود وحاجاتهم; وإعداد هذه الأرض لتلقي الحياة الإنسانية وحضانتها وإعداد هذا الإنسان للملاءمة مع البيئة والتفاهم معها.

                                                                                                                                                                                                                                      وجعل الأرض مهادا للحياة - وللحياة الإنسانية بوجه خاص - شاهد لا يمارى في شهادته بوجود العقل المدبر من وراء هذا الوجود الظاهر. فاختلال نسبة واحدة من النسب الملحوظة في خلق الأرض هكذا بجميع ظروفها. أو اختلال نسبة واحدة من النسب الملحوظة في خلق الحياة لتعيش في الأرض.. الاختلال هنا أو هناك لا يجعل الأرض مهادا; ولا يبقي هذه الحقيقة التي يشير إليها القرآن هذه الإشارة المجملة، ليدركها كل إنسان وفق درجة معرفته ومداركه..

                                                                                                                                                                                                                                      وجعل الجبال أوتادا.. يدركه الإنسان من الناحية الشكلية بنظره المجرد، فهي أشبه شيء بأوتاد الخيمة التي تشد إليها. أما حقيقتها فنتلقاها من القرآن، وندرك منه أنها تثبت الأرض وتحفظ توازنها.. وقد يكون هذا لأنها تعادل بين نسب الأغوار في البحار ونسب المرتفعات في الجبال.. وقد يكون لأنها تعادل بين التقلصات الجوفية للأرض والتقلصات السطحية، وقد يكون لأنها تثقل الأرض في نقط معينة فلا تميد بفعل الزلازل والبراكين والاهتزازات الجوفية.. وقد يكون لسبب آخر لم يكشف عنه بعد.. وكم من قوانين وحقائق مجهولة أشار إليها القرآن الكريم. ثم عرف البشر طرفا منها بعد مئات السنين!

                                                                                                                                                                                                                                      واللمسة الثانية في ذوات النفوس، في نواح وحقائق شتى:

                                                                                                                                                                                                                                      وخلقناكم أزواجا ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهي ظاهرة كذلك ملحوظة يدركها كل إنسان بيسر وبساطة.. فقد خلق الله الإنسان ذكرا وأنثى، وجعل حياة هذا الجنس وامتداده قائمة على اختلاف الزوجين والتقائهما. وكل إنسان يدرك هذه الظاهرة، ويحس ما وراءها من راحة ولذة ومتاع وتجدد بدون حاجة إلى علم غزير. ومن ثم يخاطب بها القرآن الإنسان في أية بيئة فيدركها ويتأثر بها حين يتوجه تأمله إليها، ويحس ما فيها من قصد ومن تنسيق وتدبير.

                                                                                                                                                                                                                                      ووراء هذا الشعور المبهم بقيمة هذه الحقيقة وعمقها، تأملات أخرى حين يرتقي الإنسان في المعرفة وفي الشعور أيضا.. هنالك التأمل في القدرة المدبرة التي تجعل من نطفة ذكرا، وتجعل من نطفة أنثى، بدون مميز [ ص: 3805 ] ظاهر في هذه النطفة أو تلك، يجعل هذه تسلك طريقها لتكون ذكرا، وهذه تسلك طريقها لتكون أنثى.. اللهم إلا إرادة القدرة الخالقة وتدبيرها الخفي، وتوجيهها اللطيف، وإيداعها الخصائص التي تريدها هي لهذه النطفة وتلك، لتخلق منهما زوجين تنمو بهما الحياة وترقى!

                                                                                                                                                                                                                                      وجعلنا نومكم سباتا. وجعلنا الليل لباسا. وجعلنا النهار معاشا ..

                                                                                                                                                                                                                                      وكان من تدبير الله للبشر أن جعل النوم سباتا يدركهم فيقطعهم عن الإدراك والنشاط; ويجعلهم في حالة لا هي موت ولا هي حياة، تتكفل بإراحة أجسادهم وأعصابهم وتعويضها عن الجهد الذي بذلته في حالة الصحو والإجهاد والانشغال بأمور الحياة.. وكل هذا يتم بطريقة عجيبة لا يدرك الإنسان كنهها، ولا نصيب لإرادته فيها ولا يمكن أن يعرف كيف تتم في كيانه. فهو في حالة الصحو لا يعرف كيف يكون وهو في حالة النوم. وهو في حالة النوم لا يدرك هذه الحالة ولا يقدر على ملاحظتها! وهي سر من أسرار تكوين الحي لا يعلمه إلا من خلق هذا الحي وأودعه ذلك السر وجعل حياته متوقفة عليه. فما من حي يطيق أن يظل من غير نوم إلا فترة محدودة. فإذا أجبر إجبارا بوسائل خارجة عن ذاته كي يظل مستيقظا فإنه يهلك قطعا.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي النوم أسرار غير تلبية حاجة الجسد والأعصاب.. إنه هدنة الروح من صراع الحياة العنيف، هدنة تلم بالفرد فيلقي سلاحه وجنته - طائعا أو غير طائع - ويستسلم لفترة من السلام الآمن، السلام الذي يحتاجه الفرد حاجته إلى الطعام والشراب. ويقع ما يشبه المعجزات في بعض الحالات حيث يلم النعاس بالأجفان، والروح مثقل، والأعصاب مكدودة، والنفس منزعجة، والقلب مروع. وكأنما هذا النعاس - وأحيانا لا يزيد على لحظات - انقلاب تام في كيان هذا الفرد. وتجديد كامل لا لقواه بل له هو ذاته، وكأنما هو كائن حين يصحو جديد.. ولقد وقعت هذه المعجزة بشكل واضح للمسلمين المجهودين في غروة بدر وفي غزوة أحد، وامتن الله عليهم بها. وهو يقول: إذ يغشيكم النعاس أمنة منه .. ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم .. كما وقعت للكثيرين في حالات مشابهة!

                                                                                                                                                                                                                                      فهذا السبات: أي الانقطاع عن الإدراك والنشاط بالنوم ضرورة من ضرورات تكوين الحي; وسر من أسرار القدرة الخالقة; ونعمة من نعم الله لا يملك إعطاءها إلا إياه. وتوجيه النظر إليها على هذا النحو القرآني ينبه القلب إلى خصائص ذاته، وإلى اليد التي أودعتها كيانه، ويلمسه لمسة تثير التأمل والتدبر والتأثر.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية