الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وهذا ذكر شيء من ترجمة الأوزاعي رحمه الله

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      هو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد أبو عمرو الأوزاعي . والأوزاع بطن من حمير ، وهو من أنفسهم ، قاله محمد بن سعد . وقال غيره : لم يكن من أنفسهم ، وإنما نزل في محلة الأوزاع ، وكانت قرية خارج باب [ ص: 444 ] الفراديس من دمشق ، وهو ابن عم يحيى بن أبي عمرو السيباني . قال أبو زرعة : وأصله من سباء السند فنزل الأوزاع ، فغلب عليه النسبة إليها . وقال غيره : ولد ببعلبك ، ونشأ بالبقاع يتيما في حجر أمه ، وكانت تنتقل به من بلد إلى بلد ، وتأدب بنفسه ، فلم يكن في أبناء الملوك والوزراء أعقل منه ، ولا أورع ، ولا أعلم ، ولا أفصح ، ولا أوقر ، ولا أحلم ، ولا أكثر صمتا منه ، وما تكلم بكلمة إلا كان المتعين على من يجالسه أن يكتبها; من حسنها ، وكان يعاني الرسائل والكتابة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد اكتتب في بعث إلى اليمامة ، فسمع الحديث من يحيى بن أبي كثير ، وانقطع إليه ، فأرشده إلى الرحلة إلى البصرة ليسمع من الحسن وابن سيرين ، فسار إليها فوجد الحسن قد توفي من شهرين ، ووجد ابن سيرين مريضا ، فجعل يتردد لعيادته ، فقوي المرض به ، ومات ولم يسمع منه الأوزاعي شيئا ، وجاء فنزل دمشق بمحلة الأوزاع خارج باب الفراديس ، وساد أهلها في زمانه وسائر البلاد في الفقه والحديث والمغازي وعلوم الإسلام . وقد أدرك خلقا من التابعين وغيرهم ، وحدث عنه جماعات من سادات المسلمين ، كمالك بن أنس ، والثوري ، والزهري وهو من شيوخه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأثنى عليه غير واحد من الأئمة ، وأجمع المسلمون على عدالته وإمامته; قال [ ص: 445 ] مالك : كان الأوزاعي إماما يقتدى به .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال سفيان بن عيينة وغيره : كان إمام أهل زمانه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد حج مرة ، فدخل مكة وسفيان الثوري آخذ بزمام جمله ، ومالك يسوق به ، والثوري يقول : افسحوا للشيخ .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد تذاكر مالك والأوزاعي بالمدينة من الظهر حتى صليا العصر ، ومن العصر حتى صليا المغرب ، فغمره الأوزاعي في المغازي ، وغمره مالك في الفقه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وتناظر هو والثوري في مسجد الخيف في مسألة رفع اليدين في الركوع والرفع منه ، فاحتج الأوزاعي بما رواه عن الزهري ، عن سالم عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الركوع والرفع منه ، واحتج الثوري على ذلك بحديث يزيد بن أبي زياد ، فغضب الأوزاعي وقال : أتعارض حديث الزهري بحديث يزيد بن أبي زياد وهو رجل ضعيف؟! فاحمار وجه الثوري ، فقال الأوزاعي : لعلك كرهت ما قلت؟ قال : نعم . قال : فقم بنا حتى نلتعن عند الركن أينا على الحق . فسكت الثوري .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 446 ] وقال هقل بن زياد : أفتى الأوزاعي في سبعين ألف مسألة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو زرعة : روي عنه ستون ألف مسألة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال غيرهما : أفتى في سنة ثلاث عشرة ومائة ، وعمره إذ ذاك خمس وعشرون سنة ، ثم لم يزل يفتي حتى مات .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال يحيى القطان عن مالك : اجتمع عندي الأوزاعي ، والثوري ، وأبو حنيفة . فقلت : أيهم أرجح؟ قال : الأوزاعي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال محمد بن عجلان : ما رأيت أحدا أنصح للمسلمين من الأوزاعي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال غيره : ما رئي الأوزاعي ضاحكا مقهقها قط ، ولقد كان يعظ الناس فلا يبقى أحد في مجلسه إلا بكى بعينه أو بقلبه ، وما رأيناه يبكي في مجلسه قط .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال يحيى بن معين : العلماء أربعة; الثوري ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والأوزاعي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 447 ] والأوزاعي ثقة ، وليس هو في الزهري بذاك . أخذ كتاب الزبيدي عن الزهري . وما أقل ما رواه عن الزهري .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو حاتم : كان ثقة متبعا لما سمع . قالوا : وكان الأوزاعي لا يلحن في كلامه ، وكانت كتبه ترد على المنصور ، فينظر فيها ويتأملها ، ويتعجب من فصاحتها وحلاوتها ، فقال يوما لأحظى كتابه عنده وهو سليمان بن مجالد : ينبغي أن تجيب الأوزاعي عن كتبه . فقال : والله يا أمير المؤمنين ، لا يقدر أحد من أهل الأرض على ذلك ، وإنا لنستعين بكلامه فيما نكاتب به أهل الآفاق ممن لا يعرف كلام الأوزاعي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الوليد بن مسلم : كان الأوزاعي إذا صلى الصبح جلس يذكر الله سبحانه وتعالى حتى تطلع الشمس ، ويأثر عن السلف ذلك . قال : ثم يقومون فيتذاكرون في الفقه والحديث .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وعن الأوزاعي أنه قال : رأيت رب العزة في المنام ، فقال : أنت الذي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فقلت : بفضلك يا رب . قلت : يا رب أمتني على الإسلام . فقال : وعلى السنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال محمد بن شعيب بن شابور : قال لي شيخ بجامع دمشق : أنا ميت [ ص: 448 ] في يوم كذا وكذا . فلما كان ذلك اليوم رأيته في صحن الجامع يتفلى ، فقال لي : اذهب إلى سرير الموتى فأحرزه لي عندك قبل أن تسبق إليه . فقلت : ما تقول؟! فقال : هو ما أقول لك; إني رأيت كأن قائلا يقول : فلان قدري ، وفلان كذا ، وعثمان بن أبي العاتكة نعم الرجل ، وأبو عمرو الأوزاعي خير من يمشي على وجه الأرض ، وأنت ميت في يوم كذا وكذا . قال محمد بن شعيب : فما جاء الظهر حتى مات ، وصلي عليه بعدها ، وأخرجت جنازته . رواها ابن عساكر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان الأوزاعي ، رحمه الله كثير العبادة ، حسن الصلاة ، وكان يقول : من أطال القيام في صلاة الليل هون الله عليه طول القيام يوم القيامة . وكأنه أخذ ذلك من القرآن ، وهو قوله تعالى : ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا [ الإنسان : 26 ، 27 ] .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الوليد بن مسلم : ما رأيت أحدا أشد اجتهادا من الأوزاعي في العبادة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال غيره : حج فما نام على الراحلة ، إنما هو في صلاة ، فإذا نعس استند إلى القتب . وقال غيره : كان من شدة الخشوع كأنه أعمى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ودخلت امرأة على امرأة الأوزاعي ، فرأت الحصير الذي يصلي عليه مبلولا ، [ ص: 449 ] فقالت لها : لعل الصبي بال هاهنا . فقالت : لا ، هذا من أثر دموع الشيخ في سجوده ، وهكذا يصبح كل يوم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأوزاعي : عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس ، وإياك ورأي الرجال وإن زخرفوه بالقول; فإن الأمر ينجلي وأنت منه على طريق مستقيم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أيضا : اصبر على السنة ، وقف حيث وقف القوم ، وقل ما قالوا ، وكف عما كفوا ، وليسعك ما وسعهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان يقول : العلم ما جاء عن أصحاب محمد ، وما لم يجئ عنهم فليس بعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان يقول : لا يجتمع حب علي وعثمان إلا في قلب مؤمن . وإذا أراد الله بقوم شرا فتح عليهم باب الجدل وسد عنهم باب العمل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : وقد كان من أكرم الناس وأسخاهم ، وكان له في بيت المال على الخلفاء إقطاع ، فصار إليه من بني أمية ، وبني العباس نحو من سبعين ألف دينار ، فلم يقتن منها شيئا ، ولا ترك يوم مات سوى سبعة دنانير ، كان ينفقها في سبيل الله وفي الفقراء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 450 ] ولما دخل عبد الله بن علي دمشق ، وسلب الملك من بني أمية تطلب الأوزاعي ، فتغيب عنه ثلاثة أيام ، ثم أحضر بين يديه . قال : دخلت عليه وهو على سرير وفي يده خيزرانة ، والمسودة عن يمينه وشماله ، معهم السيوف مصلتة والعمد الحديد ، فسلمت فلم يرد ، ونكت بتلك الخيزرانة التي في يده ، ثم قال : يا أوزاعي ، ما ترى فيما صنعنا من إزالة أيدي أولئك الظلمة أرباط هو ؟ قال : فقلت : أيها الأمير ، سمعت يحيى بن سعيد الأنصاري يقول : سمعت محمد بن إبراهيم التيمى يقول : سمعت علقمة بن وقاص يقول : سمعت عمر بن الخطاب يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه . قال : فنكت بالخيزرانة أشد مما كان ينكت ، وجعل من حوله يعضون أيديهم ، ثم قال : يا أوزاعي ، ما تقول في دماء بني أمية؟ فقلت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث; النفس بالنفس ، والثيب الزاني ، والتارك لدينه المفارق للجماعة . فنكت أشد من ذلك ، ثم قال : ما تقول في أموالهم؟ فقلت : إن كانت في أيديهم حراما فهي حرام عليك أيضا ، وإن كانت لهم حلالا فلا تحل لك إلا بطريق شرعي . فنكت أشد مما كان ينكت قبل ذلك ، ثم قال : ألا نوليك القضاء؟ فقلت : إن أسلافك لم يكونوا [ ص: 451 ] يشقون علي في ذلك ، وإني أحب أن يتم ما ابتدءوني به من الإحسان . فقال : كأنك تحب الانصراف؟ فقلت : إن ورائي حرما ، وهم محتاجون إلى القيام عليهم وسترهم . قال : وانتظرت رأسي أن يسقط بين يدي ، فأمرني بالانصراف ، فلما خرجت إذا رسوله من ورائي ، وإذا معه مائتا دينار ، فقال : يقول لك الأمير : أنفق هذه . قال : فتصدقت بها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان في تلك الأيام الثلاثة صائما طاويا ، فيقال : إن الأمير لما بلغه ذلك عرض عليه الإفطار عنده ، فأبى أن يفطر عنده ، رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : ثم رحل الأوزاعي من دمشق ، فنزل بيروت مرابطا بأهله وأولاده . قال : وأعجبني فيها أني مررت بقبورها ، فإذا امرأة سوداء ، فقلت لها : أين العمارة يا هنتاه ؟ فقالت : إن أردت العمارة فهي هذه ، وإن كنت تريد الخراب فأمامك . وأشارت إلى البلد ، فعزمت على الإقامة بها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال محمد بن كثير : سمعت الأوزاعي يقول : خرجت يوما إلى الصحراء ، فإذا رجل من جراد في السماء ، وإذا شخص راكب على جرادة منها وعليه سلاح الحديد ، وكلما قال بيده هكذا مال الجراد مع يده وهو [ ص: 452 ] يقول : الدنيا باطل باطل باطل ما فيها ، الدنيا باطل باطل باطل ما فيها ، الدنيا باطل باطل باطل ما فيها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأوزاعي : كان عندنا رجل يخرج يوم الجمعة إلى الصيد ولا ينتظر الجمعة ، فخسف ببغلته ، فلم يبق منها إلا أذنها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وخرج الأوزاعي يوما من باب مسجد بيروت ، وهناك دكان فيه ناطف ، وإلى جانبه رجل يبيع البصل وهو يقول : يا أحلى من الناطف . فقال : سبحان الله! ما يرى هذا بالكذب بأسا ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الواقدي : قال الأوزاعي : كنا قبل اليوم نضحك ونلعب ، أما إذ صرنا أئمة يقتدى بنا فينبغي أن نتحفط .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكتب إلى أخ له : أما بعد ، فقد أحيط بك من كل جانب ، وإنه يسار بك في كل يوم وليلة ، فاحذر الله والقيام بين يديه ، وأن يكون آخر عهدك به ، والسلام .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن أبي الدنيا : حدثني محمد بن إدريس ، سمعت أبا صالح كاتب [ ص: 453 ] الليث يذكر عن الهقل بن زياد ، عن الأوزاعي ، أنه وعظ فقال في موعظته : أيها الناس ، تقووا بهذه النعم التي أصبحتم فيها على الهرب من نار الله الموقدة ، التي تطلع على الأفئدة ، فإنكم في دار الثواء فيها قليل ، وأنتم فيها مرحلون ، خلائف بعد القرون التي استقبلوا من الدنيا أنفها وزهرتها ، فهم كانوا أطول منكم أعمارا وأمد أجساما ، وأعظم آثارا ، فخددوا الجبال وجابوا الصخور ، ونقبوا في البلاد ، مؤيدين ببطش شديد ، وأجساد كالعماد ، فما لبثت الأيام والليالي أن طوت مدتهم وعفت آثارهم ، وأخربت منازلهم ، وأنست ذكرهم ، فما تحس منهم من أحد ولا تسمع لهم ركزا ، كانوا بلهو الأمل آمنين ، ولميقات يوم غافلين ، أو لصباح قوم نادمين ، ثم إنكم قد علمتم الذي نزل بساحتهم بيانا من عقوبة الله ، فأصبح كثير منهم في ديارهم جاثمين ، وأصبح الباقون ينظرون في آثار نقمه ، وزوال نعمه ، ومساكن خاوية ، وفيها آية للذين يخافون العذاب الأليم ، وعبرة لمن يخشى ، وأصبحتم من بعدهم في أجل منقوص ، ودنيا مقبوضة ، في زمان قد ولى عفوه ، وذهب رخاؤه ، فلم يبق منه إلا حمة شر ، وصبابة كدر ، وأهاويل غير ، وعقوبات عبر ، وإرسال فتن ، وتتابع زلازل ، ورذالة خلف ، بهم ظهر الفساد في البر والبحر ، فلا تكونوا أشباها لمن [ ص: 454 ] خدعه الأمل ، وغره طول الأجل ، وتبلغ بالأماني ، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن وعى نذره وانتهى ، وعقل مثواه فمهد لنفسه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد اجتمع الأوزاعي بالمنصور حين دخل الشام ووعظه ، وأحبه المنصور وعظمه ، ولما أراد الانصراف استأذنه في أن لا يلبس السواد فأذن له ، فلما خرج قال المنصور للربيع الحاجب : الحقه فسله لم كره لبس السواد؟ ولا تخبره أني قلت لك . فسأله الربيع فقال : لأني لم أر محرما أحرم فيه ، ولا ميتا كفن فيه ، ولا عروسا جليت فيه ، فلهذا أكرهه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان الأوزاعي في الشام معظما مكرما ، أمره أعز عندهم من أمر السلطان ، وهم به بعض الولاة ، فقال له أصحابه : دعه عنك فوالله لو أمر الشاميين أن يقتلوك لقتلوك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما مات جلس عند قبره بعض الولاة فقال : رحمك الله ، فوالله لقد كنت أخاف منك أكثر مما أخاف من الذي ولاني . وقد قال أبو مسهر : ما مات الأوزاعي حتى جلس وحده ، وسمع شتمه بأذنه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو خيثمة : حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي قال : كنت جالسا [ ص: 455 ] عند الثوري ، فجاءه رجل ، فقال : رأيت كأن ريحانة من المغرب قلعت . قال : إن صدقت رؤياك فقد مات الأوزاعي . فكتبوا ذلك ، فجاء موت الأوزاعي في ذلك اليوم أو في تلك الليلة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو مسهر : بلغنا أن سبب موت الأوزاعي أن امرأته أغلقت عليه باب حمام ، فمات فيه ، ولم تكن عامدة لذلك ، فأمرها سعيد بن عبد العزيز بعتق رقبة . قال : وما خلف ذهبا ولا فضة ولا عقارا ولا متاعا ، إلا ستة دنانير فضلت من عطائه . وكان قد اكتتب في ديوان الساحل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال غيره : كان الذي أغلق عليه باب الحمام صاحب الحمام ، وذهب إلى حاجة ، ثم جاء ففتح الحمام ، فوجده ميتا قد وضع يده اليمنى تحت خده وهو مستقبل القبلة ، رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قلت : لا خلاف أنه مات ببيروت مرابطا ، واختلفوا في سنة وفاته; فروى يعقوب بن سفيان عن سلمة قال : قال أحمد : قال يحيى : رأيت الأوزاعي ، وتوفي سنة خمسين ومائة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الوليد بن مسلم : سنة ست وخمسين ومائة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 456 ] وقال العباس بن الوليد البيروتي : أخبرني أبي قال : توفي يوم الأحد ، أول النهار لليلتين بقيتا من صفر ، سنة سبع وخمسين ومائة . وهو الذي عليه الجمهور ، وهو الصحيح ، وهو قول أبي مسهر ، وهشام بن عمار ، والوليد بن مسلم - في أصح الروايات عنه - ويحيى بن معين ، ودحيم ، وخليفة بن خياط ، وأبي عبيد ، وسعيد بن عبد العزيز وغير واحد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال العباس بن الوليد : ولم يبلغ سبعين سنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قلت : وقال غيره : جاوز السبعين . والصحيح تسع وستون سنة; لأنه كان ميلاده في سنة ثمان وثمانين على الصحيح . وقيل : إنه ولد سنة ثلاث وتسعين ، وهذا ضعيف .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد رآه بعضهم في المنام ، فقال له : دلني على عمل يقربني إلى الله . فقال : ما رأيت في الجنة درجة أعلى من درجة العلماء ، ثم المحزونين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية