الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( المسألة الثالثة ) اختلف الفقهاء في أول العصر الذي [ ص: 220 ] أدركته هل يدخل الورع والزهد في المباحات أم لا فادعى ذلك بعضهم ، ومنعه بعضهم ، وضيق بعضهم على بعض وأكثروا التشنيع فقال الأبياني في مصنفه : لا يدخل الورع فيها ؛ لأن الله - تعالى - سوى بين طرفيها ، والورع مندوب إليه ، والندب مع التسوية متعذر ، وقال الشيخ بهاء الدين الحميري : يدخل الورع في المباحات ، وما زال السلف الصالح على الزهد في المباحات ، ويدل على ذلك قوله تعالى { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا } وغيره من النصوص ، وكل من الشيخين على الحق والصواب ؛ إذ لم يتواردا على محل واحد في الكلام ، والجمع بينهما أن المباحات لا زهد فيها ، ولا ورع فيها من حيث هي مباحات ، وفيها الزهد والورع من حيث إن الاستكثار من المباحات يحوج إلى كثرة الاكتساب الموقع في الشبهات ، وقد يوقع في المحرمات ، وكثرة المباحات أيضا تفضي إلى بطر النفوس فإن كثرة العبيد والخيل والخول والمساكن العلية والمآكل الشهية والملابس اللينة لا يكاد يسلم صاحبها من الإعراض عن مواقف العبودية والتضرع لعز الربوبية كما يفعل ذلك الفقراء أهل الحاجات والفاقات والضرورات ، وما يلزم قلوبهم من الخضوع والذلة لذي الجلال وكثرة السؤال من نواله وفضله آناء الليل وأطراف النهار ؛ لأن أنواع الضرورات تبعث على ذلك قهرا ، والأغنياء بعيدون عن هذه الخطة فكان الزهد والورع في المباحات من هذا الوجه لا من جهة أنها مباحات ، ويدل على اعتبار ما تقدم قوله تعالى { كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى }

[ ص: 221 ] وقوله تعالى { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك } أي من أجل أن أعطاه الله الملك فلو كان النمرود فقيرا حقيرا مبتلى بالحاجات والضرورات لم تحتد نفسه إلى منازعة إبراهيم ودعواه الإحياء أو الإماتة ، وتعرضه لإحراق إبراهيم عليه السلام بالنيران ، وإنما وصل إلى هذه المعاطب والمهالك بسبب أنه ملك ، وكذلك قوله تعالى حكاية عن الكفار { قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون } وفي الأنبياء الآية الأخرى { وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي } فحصل من ذلك أن اتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمبادرين إلى تصديقهم إنما هم الفقراء والضعفاء ، وأعداء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومعاندوهم هم الأغنياء لقوله تعالى { وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل } وفي الآية الأخرى { إلا قال مترفوها } ولم يقل إلا قال فقراؤها فهذه سنة الله - تعالى - في خلقه أن الأكثرين في هذه الدار هم الأقلون في تلك الدار ، والأقلون في هذه الدار هم الأكثرون في تلك الدار فهذا وجه ما كان السلف يعتمدونه من الزهد والورع في المباحات ، وهو وجه لزوم الذم المفهوم من قوله { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا } فهذا وجه الجمع بين القولين

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

، وكذلك ما قاله في المسألة الثالثة وجميع ما قال في الفروق الخمسة بعد هذا الفرق صحيح . [ ص: 220 - 221 ]



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( المسألة الثالثة )

قال الأصل وصححه ابن الشاط في دخول الورع والزهد في المباحات وعدم [ ص: 240 ] دخولها فيها خلاف وقع في أول العصر الذي أدركته يعني أوائل القرن السابع فادعى ذلك بعضهم ومنعه بعضهم ، وضيق بعضهم على بعض وأكثروا التشنيع فقال الأبياني في مصنفه : لا يدخل الورع فيها ؛ لأن الله سوى بين طرفيها ، والورع مندوب إليه ، والندب مع التسوية متعذر ، وقال الشيخ بهاء الدين الحميري : يدخل الورع في المباحات ، وما زال السلف الصالح على الزهد في المباحات ، ويدل على ذلك قوله تعالى { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا } وغيره من النصوص وكل من الشيخين على الحق والصواب ؛ إذ لم يتواردا على محل واحد في الكلام .

والجمع بينهما أن المباحات لا زهد فيها ، ولا ورع فيها من حيث هي مباحات ، وفيها الزهد والورع من حيث إن الاستكثار من المباحات يحوج إلى كثرة الاكتساب الموقع في الشبهات بل قد يوقع في المحرمات وكثرة المباحات أيضا تقضي إلى بطر النفوس ، فإن كثرة العبيد والخيل والخول والمساكن العلية والمآكل الشهية والملابس اللينة لا يكاد يسلم صاحبها من الإعراض عن موقف العبودية ، وعن التضرع لعز الربوبية ، كما يفعل ذلك الفقراء أهل الحاجات والفاقات والضرورات ، وما يلزم قلوبهم من الخضوع والذلة لذي الجلال وكثرة السؤال من نواله وفضله آناء الليل وأطراف النهار ؛ لأن أنواع الضرورات تبعث على ذلك قهرا ، والأغنياء بعيدون عن هذه الخطة فدخول الزهد والورع في المباحات من هذه الجهة لا من جهة أنها مباحات ، ويدل على اعتبار الجهة الأولى فيها قوله تعالى { كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } وقوله تعالى { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك } أي من أجل أن أعطاه الله الملك فلو كان النمرود فقيرا حقيرا مبتلى بالحاجات والضرورات لم يحتد نفسه إلى منازعة إبراهيم ودعواه الإحياء والإماتة وتعرضه لإحراق إبراهيم عليه السلام بالنيران ، وإنما وصل إلى هذه المعاطب والمهالك بسبب أنه ملك ، وكذلك قوله تعالى حكاية عن الكفار { قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون } وفي الآية الأخرى { وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي } فحصل من ذلك أن اتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمبادرين إلى تصديقهم إنما هم الفقراء والضعفاء وأن أعداء الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ومعانديهم إنما هم الأغنياء لقوله تعالى { وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل } .

وفي الآية الأخرى { إلا قال مترفوها } ولم يقل إلا قال فقراؤها فهذه سنة الله - تعالى - في خلقه أن الأكثرين في هذه الدار هم الأقلون في تلك الدار ، وأن الأقلين في هذه [ ص: 241 ] الدار هم الأكثرون في تلك الدار فهذا وجه ما كان السلف يعتمدونه في دخول الزهد والورع في المباحات ، وهو وجه لزوم الذم المفهوم من قوله تعالى { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا } وبه يجمع بين القولين . ا هـ . والله - سبحانه وتعالى - أعلم .




الخدمات العلمية