الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثالث

5861 - عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : حدثني أبو سفيان بن حرب من فيه إلى في ، قال : انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : بينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل . قال : وكان دحية الكلبي جاء به فدفعه إلى عظيم بصرى ، فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل . فقال هرقل : هل هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ قالوا : نعم ، فدعيت في نفر من قريش ، فدخلنا على هرقل ، فأجلسنا بين يديه ، فقال : أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ قال أبو سفيان : فقلت : أنا ، فأجلسوني بين يديه ، وأجلسوا أصحابي خلفي ، ثم دعا بترجمانه فقال : قل لهم : إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ، فإن كذبني فكذبوه ، قال أبو سفيان : وايم الله لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبته ، ثم قال لترجمانه : سله كيف حسبه فيكم ؟ قال : قلت : هو فينا ذو حسب . قال : فهل كان من آبائه من ملك ؟ قلت : لا . قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب في أن يقول ما قال : قلت : لا . قال : ومن يتبعه ، أشراف الناس أم ضعفاؤهم ؟ قال : قلت : بل ضعفاؤهم . قال : أيزيدون أم ينقصون ؟ قلت : لا بل يزيدون . قال : هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له ؟ قال : قلت : لا . قال : فهل قاتلتموه ؟ قلت : نعم . قال فكيف كان قتالكم إياه ؟ قال : قلت : يكون الحرب بيننا وبينه سجالا ، يصيب منا ونصيب منه . قال : فهل يغدر ؟ قلت : لا ، ونحن منه في هذه المدة ، لا ندري ما هو صانع فينا ؟ قال : والله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه قال : فهل قال هذا القول أحد قبله ؟ قلت : لا . ثم قال لترجمانه : قل له : إني سألتك عن حسبه فيكم ، فزعمت أنه فيكم ذو حسب ، وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها . وسألتك هل كان في آبائه ملك ؟ فزعمت أن لا ، فقلت : لو كان من آبائه ملك قلت : رجل يطلب ملك آبائه . وسألتك عن أتباعه أضعفاؤهم أم أشرافهم ؟ فقلت : بل ضعفاؤهم ، وهم أتباع الرسل . وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فزعمت أن لا ، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله . وسألتك : هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له ؟ فزعمت أن لا ، وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب . وسألتك هل يزيدون أم ينقصون ؟ فزعمت أنهم يزيدون ، وكذلك الإيمان حتى يتم وسألتك هل قاتلتموه ؟ فزعمت أنكم قاتلتموه ، فتكون الحرب بينكم وبينه سجالا ينال منكم وتنالون منه ، وكذلك الرسل تبتلى ، ثم تكون لها العاقبة . وسألتك هل يغدر ، فزعمت أنه لا يغدر ، وكذلك الرسل لا تغدر ، وسألتك هل قال هذا القول أحد قبله ؟ فزعمت أن لا ، فقلت : لو كان قال هذا القول أحد قبله ، قلت : رجل ائتم بقول قيل قبله . قال : ثم قال : بما يأمركم ؟ قلنا : يأمرنا بالصلاة ، والزكاة ، والصلة ، والعفاف ، قال : إن يك ما تقول حقا فإنه نبي ، وقد كنت أعلم أنه خارج ، ولم أكن أظنه منكم ، ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه ، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي . ثم دعا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأه . متفق عليه . وقد سبق تمام الحديث في ( باب الكتاب إلى الكفار ) .

التالي السابق


الفصل الثالث

5861 - ( عن ابن عباس قال : حدثني أبو سفيان بن حرب ) : بضم السين وجوز تثليثه ، واسمه صخر بمهملة فمعجمة ، ولد قبل الفيل بعشر سنين ، وأسلم ليلة الفتح ، وشهد الطائف وحنينا ، وفقئت عينه في الأولى والأخرى يوم اليرموك ، توفي بالمدينة ، وصلى عليه عثمان رضي الله عنهما ( من فيه إلى في ) ، من للابتداء أي : الحديث الذي أرويه انتقل من فمه إلى فمي ، ولم يكن بيننا واسطة ، كذا ذكره الطيبي ، والأظهر أن معناه لم يكن أحد حاضرا غيري معه ، كما يدل عليه حدثني ، وكذا قوله في فإنه لو كان أحد غيره لجاز أن يرويه ، فلا يكون التحديث منحصرا من فمه إلى فمه فقط . ( قال ) أي : أبو سفيان ( انطلقت ) أي : سافرت ( في المدة ) أي : في مدة الصلح ( التي كانت بيني وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم ) : يعني صلح الحديبية ذكره النووي ، وكان سنة ست ومدتها عشر سنين ، لكنهم نقضوا العهد بقتل بعض خزاعة من حلفائه - صلى الله عليه وسلم - سنة ثمان وفتح مكة . ( قال ) أي : أبو سفيان ( فبينا أنا بالشام ) أي : من أهل المقام ( إذ جيء بكتاب من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل ) . بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف وهذا هو المشهور على ما في شرح مسلم ، وفي نسخة بكسر الهاء والقاف وسكون الراء ، وهو غير منصرف للعجمة .

[ ص: 3752 ] والعلمية ، وهو ملك الروم ولقبه قيصر ، وهو أول من ضرب الدنانير ، وأول من أحدث البيعة على ما في القاموس . قال ) أي : أبو سفيان ( وكان دحية الكلبي ) : بكسر الدال ويفتح ( جاء به ) أي : بالكتاب ( فدفعه إلى عظيم بصرى ) ، أي : أميرها ، وهي بضم الموحدة مقصورة قرية بين المدينة ودمشق الشام ( فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل ، فقال هرقل : هل هاهنا ) أي : في أرض الشام ( أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ) ؟ يعني لكي نسأل عن وصفه ليتبين لنا صدقه من كذبه ( قالوا ) أي : بعض خدمه وحشمه ( نعم ، فدعيت في نفر ) أي : مع نفر من قريش ، وكانوا ثلاثين رجلا ، وقيل : المغيرة بن شعبة منهم ، وفيه أنه سبق إسلامه ، لأنه أسلم عام الخندق ، فيبعد أن يكون حاضرا ، وسكت مع كونه مسلما . قلت : وقد يقال إنه لم يذكر فيه ما ينافي سكوته ( فدخلنا على هرقل ، فأجلسنا ) : بصيغة المفعول ، وفي نسخة على بناء الفاعل أي : أمر هرقل بجلوسنا ( بين يديه ) ، أي : قدامه ليسمع كلامنا ونسمع كلامه ( فقال : أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ) ؟ قال العلماء : وإنما سأل قريب النسب لأنه أعلم بحاله ، وأبعد من أن يكذب في حقه ( قال أبو سفيان : فقلت : أنا ) . أي : أقرب نسبا منه ( فأجلسوني بين يديه ) ، أي : وحدي ( وأجلسوا أصحابي خلفي ) ، وإنما أجلسهم خلفه ليكون أعون عليهم في تكذيبه إن كذب ، ولا يستحيوا منه ، أو ليمكن لهم أن يشيروا إليه ويدلوا عليه . بما هنالك إما بإيماء يد أو بتحريك رأس ونحو ذلك ، ولا يبعد أنه قصد في تقريبه لكونه أقرب في النسب على ما يقتضيه الأدب ، ( ثم دعا بترجمانه ) : بفتح التاء وضم الجيم وبضمهما والفتح أفصح ، وسبق أنه يجوز فتحهما وهو المعبر عن لغة بلغة أخرى ثم الباء زائدة أو التقدير دعا أحدا بإحضار ترجمانه فحضر ( فقال : قل لهم ) أي : لأصحاب أبي سفيان ( إني سائل هذا ) : وفي نسخة بالإضافة ، والمعنى أني أريد أن أسأل أبا سفيان ( عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ) ، أي : عن وصفه ( فإن كذبني ) : بتخفيف ! الذال أي : فإن تكلم بالكذب لي ( فكذبوه ) . بالتشديد أي : فانسبوه إلى الكذب ، ولا تسكتوا على الباطل وأعلموني بالحق .

( قال أبو سفيان : وايم الله ) : بهمزة وصل ويقطع وبضم ميم وتحقيقه تقدم وهو قسم ( لولا مخافة أن يؤثر ) : بصيغة المجهول أي : يروى ( علي الكذب ) : بفتح فكسر ، وفي نسخة بكسر فسكون ، والمعنى لولا خوف أن ينقلوا عني الكذب إلى قومي ويتحدثوا به ( لكذبته ) ، أي : لكذبت عليه لبغضي إياه . قال الطيبي : وإنما عداه بعلى لتضمن معنى المضرة أي : كذب يكون علي لا لي ، وفي هذا بيان أن الكذب قبيح في الجاهلية ، كما هو قبيح في الإسلام . أقول : الظاهر أن معناه لولا مخافة أن يكذبني هؤلاء الذين معي لكذبته في تكذيبه في بعض كلامي لتحصيل مرامي ( ثم قال لترجمانه : سله كيف حسبه فيكم ) ؟ الحسب ما يعده الإنسان من مفاخر آبائه ذكره الجوهري ، فهو أعم من النسب ، ولذا عدل عنه إليه ، قيل : وفي البخاري كيف فيكم ؟ وفي جامع الأصول كيف حسبه ؟ ( قال : قلت : هو فينا ذو حسب ) أي : عظيم ، فإن رسول الله هو : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، وأنا أبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، وليس في النفر يومئذ أحد من بني عبد مناف غيري ( قال : فهل كان من آبائه ) أي : بعض أجداده وأسلافه وفي نسخة : في آبائه أي : في جملتهم ( من ملك ) ؟ أي : من سلطان . وفي نسخة ( من ) موصولة ، وملك بصيغة الماضي أي : من كان ملكا . قال بعض المحققين : هو هكذا بحرف

[ ص: 3753 ] الجر ، و ( ملك ) صفة مشبهة ، وهو رواية : كريمة والأصيلي وأبي الوقت وابن عساكر في نسخة ، وأبو ذر عن الكشميهني : من ملك على أن ( من ) موصولة . وملك : فعل ماض ، ولأبي ذر كما في الفتح من آبائه ملك بإسقاط من والأول أشهر . ( قال : لا قال : فهل كنتم تتهمونه ) : بتشديد التاء الثانية أي : تنسبونه إلى التهمة ( بالكذب ) أي : بإيقاعه ( في أن يقول ما قال ) ؟ أي : من دعوى النبوة ( قلت : لا . قال : ومن ) : بالواو ( يتبعه ) ؟ بسكون التاء وفتح الباء ، وفي نسخة بتشديد الفوقية وكسر الموحدة ( أشراف الناس ) أي : أشرافهم ( أم ضعفاؤهم ) ؟ قال الطيبي ، وفي الحميدي وجامع الأصول : فهل يتبعه ، وأم ها هنا متصلة . وفي وقوعها قرينة لحل إشكال لأن هل تستدعي السؤال عن حصول الجملة ، وأم المتصلة تستدعي حصولها لأن السؤال بها عن تعيين المنتسبين مسندا ومسندا إليه ، والظاهر ما في صحيح مسلم وشرحه ، والمشكاة ، فمن تبعه فتكون همزة الاستفهام مقدرة في قوله : ( أشراف الناس ) فسأل أولا مجملا ثم سأل ثانيا مفصلا . ( قال : قلت : بل ضعفاؤهم ) . المراد بالأشراف أهل النخوة والتكبر لا كل شريف وإلا لورد مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ممن أسلم قبل سؤال هرقل ، كذا ذكره بعضهم ، وتعقبه العيني بأن العمرين وحمزة كانوا من أهل النخوة ، فقول أبي سفيان جرى على الغالب . ( قال : أيزيدون ) أي : بزيادة أمثالهم ( أم ينقصون ) ؟ أي : يرجعون بعضهم إلى أدبارهم أو بموت بعضهم من غير جبرهم لكسرهم ( قلت : لا ) . أي : لا ينقصون أبدا ( بل يزيدون ) أي : دائما ( قال : " هل يرتد ) ؟ أي : يرجع ( أحد منهم عن دينه أن يدخل فيه ) أي : بطيب نفسه ( سخطة ) : بفتح السين ويضم وسكون الخاء المعجمة أي كراهة وتعيينا ( له ) ؟ أي : لدينه وهي مفعول له ، وخرج به من ارتد مكرها أو لحظ نفساني . ( قال : قلت : لا . قال : فهل قاتلتموه ؟ قلت : نعم . قال : كيف كان قتالكم إياه ؟ قال : قلت : تكون ) : بالتأنيث ويذكر ( الحرب ) أي : المحاربة ( بيننا وبينه سجالا ) ، بكسر أوله أي : مساجلة ومداولة ( يصيب منا ونصيب منه ) . أي : هو ينال منا مرة لغلبته ، ونحن ننال منه أخرى لغلبتنا ، فهو تفسير لقوله : سجالا ، وقد قال تعالى : وتلك الأيام نداولها بين الناس وقال الشاعر :


فيوما علينا ويوما لنا ويوما نسر ويوما نساء

قال الطيبي : وأصله من السجل الذي هو الدلو ، لأن لكل واحد من الواردين دلوا مثل ما للآخر ، أو لكل واحد منهم يوم في الاستقاء ومعناه أن الحرب دول تارة له وتارة عليه . وقال غيره : السجال جمع سجل وهو الدلو الكبير ، والحرب اسم جنس ، فصح الإخبار عنه بالجمع ، وفيه تشبيه بليغ أي : الحرب نوب نوبة لنا ونوبة له ، فقد وقعت المقاتلة بينه - صلى الله عليه وسلم - وبينهم قبل هذه القصة في ثلاث مواطن بدر وأحد والخندق ، فأصاب المسلمون من المشركين في بدر ، وعكس في أحد وأصيب من الطائفتين ناس قليل في الخندق ، فصدق أبو سفيان في كلامه سجالا على أنه لا يلزم منه التساوي .

( قال : فهل يغدر ) ؟ بكسر الدال من الغدر ، وهو نقض العهد وخلاف الوعد . ( قلت : لا ) ، أي : ما وقع منه غدر فيما مضى ( ونحن منه ) أي : على خطر ( في هذه المدة ) ، أي : مدة الهدنة والصلح الذي جرى يوم الحديبية ( لا ندري ما هو ) أي : النبي أو الله تعالى ( صانع فيها ) ؟ أي : أيغدر في مدة هذا الصلح أم لا . ( قال ) أي : أبو سفيان ( والله ما أمكنني من كلمة ) أي : ما قدرت على كلمة ، والمراد بها جملة مفيدة ( أدخل فيها ) أي : في أثناء كلماتي

[ ص: 3754 ] ( شيئا ) أي : مما يطعن فيه في الجملة ( غير هذه ) . أي : غير هذه الجملة التي فيها يجوز احتمال الغدرة في مدة الهدنة ( قال : فهل قال هذا القول ) أي : من أمر النبوة ودعوى الرسالة ( أحد قبله ) ؟ أي : ممن سبقه من غير الأنبياء المعروفين كإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى عليهم السلام . ( قلت : لا ، ثم قال ) أي : بعد ما فرغ من الأسئلة الدالة على النبوة والرسالة ، وأراد أن يشرع في تبيين توجيهاتها من جهة المنقول والمعقول والمعروف والعادة قال : ( لترجمانه : قل له : إني سألتك عن حسبه فيكم ، فزعمت ) أي : فأجبت ( أنه فيكم ذو حسب ، وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها ) . أي : توقع بعثتهم في أحساب أقوامهم ، فتعديته بفي لتضمين معنى الإيقاع ، ويمكن أن يكون في بمعنى ( من ) على ما جوزه صاحب القاموس والمغني ، وهو ظاهر جدا يعني عما تكلف به الطيبي لقوله : هو من باب التجريد أي : يبعث وذو حسب ، وهو هو كقولك في البيضة عشرون رطلا ، وهي في نفسها هذا المقدار ، قيل : والحكمة في ذلك أنه أبعد من انتحاله الباطل ، وأقرب إلى انقياد الناس له ، ولا يخفى أن هذا القول إنما يستفاد من النقل ويساعده العقل .

( وسألتك هل كان في آبائه ملك ) ؟ أي : في جملتهم أحد من الملوك ، ولو روي بضم الميم لكان له وجه ( فزعمت أن لا ، فقلت ) أي : في نفسي بمقتضى رأيي ( لو كان من آبائه ملك ) أي : لو كان ظهر منهم سلطان ( قلت : رجل يطلب ملك آبائه ) أي : سلطتهم وهذا دليل عقلي لا يخالفه نقل ( وسألتك عن أتباعه أضعفاؤهم ) أي : أفقراء الناس وأهل خمولهم ( أم أشرافهم ) ؟ أي : أغنياؤهم وأهل خيولهم ( فقلت : بل ضعفاؤهم ، وهم أتباع الرسل ) . أي : ابتداء كما هو المشاهد في أتباع العلماء والأولياء . قال النووي : وأما قوله : إن الضعفاء هم أتباع الرسل ، فلكون الأشراف يأنفون من تقدم مثلهم عليهم ، والضعفاء لا يأنفون ، فيسرعون إلى الانقياد واتباع الحق . ( وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب في أن يقول ما قال ؟ فزعمت أن لا ، فعرفت أنه لم يكن ليدع ) : اللام لام الجحود أي : ليترك ( الكذب على الناس ، ثم يذهب فيكذب على الله ) . أي : فإن من المعلوم عند كل أحد أن الكذب على الله أقبح وأشد ، ولذا قال تعالى : ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ( وسألتك هل يرتد أحد عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له ؟ فزعمت أن لا ، وكذلك ) : بالواو ، والظاهر أنه يقال : فكذلك أي : لا يخرج ولا يرجع ( الإيمان إذا خالط بشاشته ) : بفتح الموحدة أي : أنسه وفرحه ( القلوب ) أي : فإن من دخل على بصيرة في أمر محقق لا يرجع عنه بخلاف من دخل في الأباطيل ذكره النووي ، وقد عبر - صلى الله عليه وسلم - عن البشاشة تارة بالطعم ، وأخرى بالحلاوة ، فإن من ذاق لذة شيء أحبه لا محالة ، ومن لم يذق لم يعرف ، ومن مشرب العارفين لم يغرف ، ولذا قال بعض المشايخ إنما رجع من رجع من الطريق يعني فمن وصل مع الفريق إلى الرفيق ، فهو كالرفيق في الأمن الداخل في البيت العتيق ، وقد قال شيخ مشايخناأبو الحسن البكري قدس الله سره السري : الإيمان إذا دخل القلب أمن السلب ، قلت : ولعل الإشارة إلى هذا المعنى ، والدلالة على هذا المبنى في قوله سبحانه وتعالى : فمن يكفر بالطاغوت أي : بما سوى الله ، ويؤمن بالله أي : حق الإيمان ، فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها أي : لا انقطاع ولا انفصال ولا اتحاد ولا اتصال ( وسألتك هل يزيدون أم ينقصون ) ؟ ولعله ترك الواسطة

[ ص: 3755 ] وهي المساواة للإشارة إلى أن من لم يكن في الزيادة فهو في النقصان ، لأن التوقف منفي في طور الإنسان ( فزعمت أنهم يزيدون ، وكذلك الإيمان ) أي : يزيد بنفسه وأهله ( حتى يتم ) . أي : يكمل بالأمور المعتبرة فيه من صلاة وزكاة وصيام وغيرها ، ولذا نزل في آخر عمره - صلى الله عليه وسلم : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي إنجازا لما وعده سبحانه بقوله : يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ونحن بحمد الله إلى الآن بعد مضي الألف من الزمان في زيادة الإيمان تحت أشعة أنواره ، وفي بركة لمعان أسراره المستفادة من أخباره ، والمستفاضة من آثاره . ( وسألتك هل قاتلتموه ؟ فزعمت أنكم قاتلتموه ، فيكون الحرب بينكم وبينه سجالا ينال منكم وتنالون منه ) ، أي : يصيب منكم وتصيبون منه ( وكذلك الرسل تبتلى ) ، وفيه إيماء إلى أن الدار ابتلاء ، ولذا قال بعض العارفين : ما دمت في هذه الدار لا تستغرب وقوع الأكدار ، وقد قال تعالى : وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم وفسر البلاء بالمحنة والمنحة ؟ فهو من الأضداد الحاصل للعباد ، والغالب أن البلاء لأهل الولاء ، كما أشار إليه - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ( أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ) . ( ثم يكون لها ) أي : للرسل وأتباعها ( العاقبة ) . أي : المحمودة . قال تعالى : والعاقبة للتقوى ، والآخرة خير وأبقى قال النووي : يعني نبتليهم في ذلك ليعظم أجرهم بكثرة صبرهم وبذل وسعهم في طاعة الله .

( وسألتك هل يغدر ؟ فزعمت أنه ) أي : النبي أو الشأن ( لا يغدر ) ، يعني : والأصل بقاء الشيء على ما هو عليه ، كما هو مقرر في مسألة الاستصحاب ، ولذا أعرض عن الجملة المدخولة المعلولة . ( وكذلك الرسل لا تغدر . وسألتك : هل قال هذا القول أحد قبله ؟ فزعمت أن لا ، فقلت : لو كان قال هذا القول أحد قبله ، قلت : رجل ائتم ) أي : هو رجل اقتدى ( بقول قيل قبله . قال ) أي : أبو سفيان ( ثم قال : بما يأمركم ) ؟ بصيغة الجمع تغليبا أو التفاتا ، ولذا عدل عن قوله : قلت إلى قوله : ( قلنا : يأمرنا بالصلاة ، والزكاة ) ، أي : بالعبادة المالية والبدنية ( والصلة ) ، أي : صلة الرحم وكل ما أمر الله به أن يوصل ( والعفاف ) ، بفتح العين أي : الكف عن المحارم ، وكل ما يخالف المكارم ( قال : إن يك ما تقول حقا فإنه نبي ) ، في شرح مسلم . قال العلماء : قول هرقل : ( إن يك ما تقول حقا فإنه نبي ) أخذه من الكتب القديمة ، ففي التوراة هذا ونحوه من علامات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرفه بالعلامات ، وأما الدليل القاطع على النبوة ؟ فهو المعجزة الظاهرة الخارقة للعادة ، وهكذا قاله المازري . وقال الشيخ أكمل الدين : ومع هذا لم يؤمن ولم ينتفع بتلك المعرفة ، فإنه هو الذي جيش الجيوش على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقاتلهم ، ولم يمصر في تجهيز الجيش عليهم من الروم وغيره كرة بعد كرة ، فيهزمهم الله ويهلكهم ، ولم يرجع إليه منهم إلا أقلهم ، واستمر على ذلك إلى أن مات ، وقد فتح أكثر بلاد الشام ، ثم ولي بعده ولده وبهلاكه هلكت المملكة الرومية .

قلت : يعني الرومية الجاهلية ، ثم انقلبت لهم المملكة الإسلامية بالغلبة والشوكة الإيمانية ، حتى أقامهم الله لمقاتلة الطائفة النصرانية ، ولمقابلة الرافضة الكفرانية ، وقاموا بخدمة الحرمين الشريفين من عمارتهما وخيراتهما ومبراتهما في البلدين المنيفين ، وإرسال أمراء الحج من كل فج عميق ، لا من الطريق الواصل إلى البيت العتيق ، مع ما فيهم من تعظيم الشريعة ، وتكريم العلماء ، واحترام المشايخ والأولياء فجزاهم الله أحسن الجزاء ، ونصرهم على جميع الأعداء إلى يوم النداء ، هذا ومن يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فما أعقله لو معقوله أكلمه ، لكن ما ساعده لعدم السعادة الأزلية ووجود الشقاوة الأبدية ، والسبب في ذلك طمع الرياسة وظهور الكمال ، والميل إلى وصول المال وحصول المنال والغفلة عن المآل ، وما يؤدي إلى النكال ، ولذا قال :

[ ص: 3756 ] ( وقد كنت أعلم ) أي : علما يقينا ( أنه ) أي : النبي عليه السلام ( خارج . أي : ظاهر في آخر الزمان ( ولم أكن أظنه منكم ) ، أي : من نسل إسماعيل ، وهو أبو العرب ، بل كنت أظنه أنه من معشر بني إسحاق ، فإن أكثر الأنبياء بعد إبراهيم عليه السلام منهم ، وهذه حجة داحضة وبلية غامضة ، فإن الظن لا يغني من الحق شيئا ، وما يتبع أكثرهم إلا ظنا والحق أحق أن يتبع . ( ولو أني أعلم أني أخلص ) : بضم اللام أي : أصل ( إليه ) أي : إلى خدمته ودولته وحضرة رؤيته ( لأحببت لقاءه ) أي : دولة ملاقاته وسعادة متابعته ، ( ولو كنت عنده ) أي : ولو صرت في مقامه ، ووصلت إلى موضع قيامه ( لغسلت ) أي : وجهي ( عن قدميه ) أي : غسلا صادرا عن ماء أقدامه ، لما أرى له من الثبات على الحق وإقدامه ، أو التقدير غسلت الغبار والوسخ عن قدميه فضلا عن تقبيل يديه ، ( وليبلغن ملكه ما تحت قدمي ) . بالتشديد للتثنية المنبئة عن المبالغة والتأكيد . قال النووي : ولا عذر له في هذا لأنه قد عرف صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما شح بالملك ورغب في الرياسة ، فآثرها على الإسلام ، وقد جاء ذلك مصرحا به في صحيح البخاري ، ولو أراد الله هدايته لوفقه ، كما وفق النجاشي ، وما زالت عنه الرياسة . وقال شيخ مشايخنا الحافظ جلال الدين السيوطي : اختلف في زمانه ، والأرجح بقاؤه على الكفر ، ففي مسند أحمد ، أنه كتب من تبوك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أني مسلم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : كذب ، بل هو على نصرانيته . قلت : ليس فيه نص على موته بالكفر ، وإنما رجح بناء على الأصل .

( ثم دعا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأه ) . أي : فعظمه ، وبالغ في محافظته فصار سببا لبقاء الملك في ذريته ، بخلاف كسرى حيث شقه ومزقه ، فمزق الله ملكه ، وفرق ولده ، وأخرج الله عنهم ملكه . قال سيف الدين : ( أرسلني ملك العرب إلى ملك الفرنج في شفاعة ، فقبلها وعرض علي الإقامة فأبيت ، فقال : لأتحفنك بتحفة سنية ، فأخرج من صندوقه مقلمة من ذهب ، فأخرج منها كتابا قد زال أكثر حروفه ، فقال : هذا كتاب نبيكم لجدي قيصر ما زلنا نتوارثه إلى الآن ، وقد أوصانا بأنه ما دام عندنا لا يزول الملك منا ، فنحن نحفظه ليدوم الملك لنا ) ذكره أكمل الدين . ( متفق عليه ) .

( وقد سبق تمام الحديث ) : وهو أنه كتب إليه ( في باب الكتابة إلى الكفار ) .




الخدمات العلمية