الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون

                                                                                                                                                                                                الإيحاء إلى النحل: إلهامها والقذف في قلوبها وتعليمها على وجه هو أعلم به، لا سبيل لأحد إلى الوقوف عليه، وإلا فنيقتها في صنعتها، ولطفها في تدبير أمرها، وإصابتها فيما يصلحها، دلائل بينة شاهدة على أن الله أودعها علما بذلك وفطنها، كما أولى أولي العقول عقولهم، وقرأ يحيى بن وثاب : "إلى النحل" بفتحتين، وهو مذكر كالنحل، وتأنيثه على المعنى: "أن اتخذي" هي "أن" المفسرة; لأن الإيحاء فيه معنى القول، وقرئ: "بيوتا" بكسر الباء لأجل الياء، و "يعرشون": بكسر الراء وضمها، يرفعون من سقوف البيوت، وقيل: ما يبنون للنحل في الجبال والشجر والبيوت من الأماكن التي [ ص: 451 ] تتعسل فيها، والضمير في "يعرشون": للناس.

                                                                                                                                                                                                فإن قلت ما معنى "من" في قوله: أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ، وهلا قيل في الجبال وفي الشجر ؟

                                                                                                                                                                                                قلت: أريد معنى البعضية، وألا تبني بيوتها في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش ولا في كل مكان منها، ومن كل الثمرات : إحاطة بالثمرات التي تجرسها النحل، وتعتاد أكلها، أي: ابني البيوت، ثم كلي من كل ثمرة تشتهينها، فإذا أكلتها: فاسلكي سبل ربك أي: الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل، أو: فاسلكي ما أكلت في سبل ربك، أي: في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المر عسلا من أجوافك ومنافذ مآكلك، أو: إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك، فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك، لا تتوعر عليك ولا تضلين فيها، فقد بلغني أنها ربما أجدب عليها ما حولها فتسافر إلى البلد البعيد في طلب النجعة، أو أراد بقوله: "ثم كلي" ثم اقصدي أكل الثمرات فاسلكي في طلبها في مظانها سبل ربك، "ذللا": جمع ذلول، وهي حال من السبل; لأن الله ذللها لها ووطأها وسهلها، كقوله: هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا [الملك: 15] أو من الضمير في "فاسلكي" أي: وأنت ذلل منقادة لما أمرت به غير ممتنعة، "شرابا": يريد العسل، لأنه مما يشرب، مختلف ألوانه : منه أبيض وأسود وأصفر وأحمر، فيه شفاء للناس ; لأنه من جملة الأشفية والأدوية المشهورة النافعة، وقل معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل، وليس الغرض أنه شفاء لكل مريض، كما أن كل دواء كذلك، وتنكيره إما لتعظيم الشفاء الذي فيه، أو لأن فيه بعض الشفاء، وكلاهما محتمل، وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن رجلا جاء إليه فقال: إن أخي يشتكي بطنه، فقال: "اذهب واسقه العسل"، فذهب ثم رجع فقال: قد سقيته فما نفع، فقال: "اذهب واسقه عسلا" فقد صدق الله وكذبت بطن أخيك، فسقاه فشفاه الله فبرأ، كأنما أنشط من عقال، [ ص: 452 ] وعن عبد الله بن مسعود : العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور، فعليكم بالشفاءين: القرآن والعسل، ومن بدع التأويلات الرافضة: أن المراد بالنحل: علي وقومه: وعن بعضهم أنه قال عند المهدي: إنما النحل: بنو هاشم، يخرج من [ ص: 453 ] بطونهم العلم، فقال له رجل: جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطونهم فضحك المهدي وحدث به المنصور ، فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهم.

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية