الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذكر البيعة لموسى الهادي وهارون الرشيد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كان الخليفة المهدي قد ألح على عيسى بن موسى في أن يخلع نفسه عن ولاية العهد ، وهو في ذلك كله يمتنع ، وهو مقيم بالكوفة ، فبعث إليه المهدي [ ص: 482 ] أحد القواد الكبار ، وهو أبو هريرة محمد بن فروخ في ألف من أصحابه لإحضاره إليه ، وأمرهم أن يستصحبوا مع كل واحد منهم طبلا ، فإذا واجهوا الكوفة عند إضاءة الفجر ضرب كل واحد منهم بطبله ، ففعلوا ذلك ، فارتجت الكوفة ، وخاف عيسى بن موسى ، فلما انتهوا إليه دعوه إلى حضرة الخليفة ، فأظهر التشكي ، فلم يقبلوا ، وأخذوه معهم ، فدخلوا بغداد في يوم الخميس لثلاث خلون من المحرم من هذه السنة ، فاجتمع عليه وجوه بني هاشم والقضاة والأعيان ، وسألوه في ذلك وهو يمتنع ، ثم لم يزل الناس به بالرغبة والرهبة حتى أجاب في يوم الأربعاء لأربع بقين من المحرم بعد العصر يومئذ . وبويع لولدي أمير المؤمنين; موسى وهارون الرشيد صبيحة يوم الخميس لثلاث بقين من المحرم ، فجلس المهدي في قبة عظيمة في إيوان الخلافة ، ودخل الأمراء فبايعوا ، ثم نهض المهدي فصعد المنبر وجلس ابنه موسى الهادي تحته ، وقام عيسى بن موسى على أول درجة منه ، وخطب المهدي ، فأعلمهم بما وقع من خلع عيسى بن موسى نفسه ، وأنه قد حلل الناس من الأيمان التي له في أعناقهم ، وجعل ذلك إلى موسى الهادي ، فصدق عيسى بن موسى ذلك ، وبايع المهدي على ذلك ، ثم نهض الناس فبايعوا الخليفة على حسب مراتبهم وأسنانهم ، وكتب على عيسى بن موسى مكتوبا مؤكدا بالأيمان البالغة من الطلاق والعتاق ، وأشهد عليه جماعة الأمراء والوزراء وأعيان بني هاشم وغيرهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها وصل عبد الملك بن شهاب المسمعي مدينة باربد من الهند في جحفل [ ص: 483 ] كثير معه ، فحاصروها ونصبوا عليها المجانيق ، ورموها بالنفط ، فأحرقوا منها طائفة ، وهلك بشر كثير من أهلها ، وفتحوها عنوة وأرادوا الانصراف فلم يمكنهم ذلك; لاغتلام البحر ، فأقاموا هنالك ، فأصابهم داء في أفواههم يقال له : حمام قر . فمات منهم ألف نفس ، منهم الربيع بن صبيح ، فلما أمكنهم المسير ركبوا في البحر ، فهاجت عليهم ريح ، فغرق منهم طائفة أيضا ، ووصل بقيتهم إلى البصرة ومعهم سبي كثير ، فيهم بنت ملكهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها حكم المهدي بإلحاق نسب ولد أبي بكرة الثقفي إلى ولاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقطع نسبهم من ثقيف ، وكتب بذلك كتابا إلى والي البصرة ، وقطع نسبه من زياد ومن نسب نافع ، ففي ذلك يقول بعض الشعراء ، وهو خالد النجار :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إن زيادا ونافعا وأبا بكرة عندي من أعجب العجب     ذا قرشي كما يقول وذا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      مولى وهذا بزعمه عربي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فذكر ابن جرير أن نائب البصرة لم ينفذ ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة حج بالناس أمير المؤمنين المهدي ، واستخلف على بغداد ابنه موسى الهادي ، واستصحب معه ابنه هارون الرشيد وخلقا من الأمراء ، منهم يعقوب بن داود على منزلته ومكانته ، وكان الحسن بن إبراهيم قد هرب من الخادم ، فلحق بأرض الحجاز ، فاستأمن له يعقوب بن داود ، فأحسن المهدي [ ص: 484 ] صلته ، وأجزل جائزته ، وفرق المهدي في أهل مكة مالا عظيما جدا ، وكان قد قدم معه بثلاثين ألف ألف درهم ومائة ألف ثوب ، وجاء من مصر ثلاثمائة ألف دينار ، ومن اليمن مائتا ألف دينار ، فأعطاها كلها في أهل مكة والمدينة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وشكت الحجبة إلى المهدي أنهم يخافون على الكعبة أن تنهدم من كثرة ما عليها من الكساوي ، فأمر بتجريدها من الكسوة ، فلما انتهوا إلى كساوي هشام بن عبد الملك وجدها من ديباج ثخين جدا ، وبقية كساوي الخلفاء قبله وبعده من عمل أهل اليمن ، فلما جردها طلاها بالخلوق ، وكساها كسوة حسنة جدا ، ويقال : إنه استفتى مالكا في إعادة الكعبة إلى ما كان بناها ابن الزبير من موضعها على الوجه الذي كان يوده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال مالك : دعها على حالها; فإني أخشى أن يتخذها الملوك ملعبة . فتركها كما كانت .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحمل له محمد بن سليمان نائب البصرة الثلج إلى مكة ، فكان أول خليفة حمل له الثلج إليها . ولما دخل المدينة النبوية وسع المسجد النبوي ، وكان فيه مقصورة ، فأزالها . وأراد أن ينقص من المنبر ما كان زاده معاوية بن أبي سفيان ، فقال له مالك : إنه يخشى أن ينكسر الخشب العتيق إذا زعزع . فتركه فلم يتعرض له .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وتزوج من المدينة رقية بنت عمرو العثمانية ، وانتخب من أهلها من الأنصار خمسمائة من أعيانها ليكونوا حوله حرسا بالعراق وأنصارا له ، وأجرى عليهم أرزاقا غير أعطياتهم ، وأقطعهم أقطاعا معروفة بهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية