الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل :

[ مسألة ميراث الأخوات مع البنات ]

المسألة الثالثة : ميراث الأخوات مع البنات وأنهن عصبة ، فإن القرآن يدل عليه كما أوجبته السنة الصحيحة ، فإن الله - سبحانه - قال : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد } [ ص: 275 ] وهذا دليل على أن الأخت ترث النصف مع عدم الولد ، وأنه هو يرث المال كله مع عدم ولدها ، وذلك يقتضي أن الأخت مع الولد لا يكون لها النصف مما ترك ، إذ لو كان كذلك لكان قوله : { ليس له ولد } زيادة في اللفظ ، ونقصا في المعنى ، وإيهاما لغير المراد ، فدل على أنها مع الولد لا ترث النصف ، والولد إما ذكر وإما أنثى ، فأما الذكر فإنه يسقطها كما يسقط الأخ بطريق الأولى .

ودل قوله : { وهو يرثها إن لم يكن لها ولد } على أن الولد يسقطه كما يسقطها ، وأما الأنثى فقد دل القرآن على أنها إنما تأخذ النصف ولا تمنع الأخ عن النصف الباقي إذا كانت بنت وأخ ، بل دل القرآن مع السنة والإجماع أن الأخ يفوز بالنصف الباقي ، كما قال - تعالى - : { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون } .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " { ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي فلأولى رجل ذكر } وليس في القرآن ما ينفي ميراث الأخت مع إناث الولد بغير جهة الفرض ، وإنما صريحه ينفي أن يكون فرضها النصف مع الولد ، فبقي ههنا ثلاثة أقسام :

إما أن يفرض لها أقل من النصف ، وإما أن تحرم بالكلية ، وإما أن تكون عصبة ، والأول محال ، إذ ليس للأخت فرض مقدر غير النصف ، فلو فرضنا لها أقل منه لكان ذلك وضع شرع جديد ، فبقي إما الحرمان وإما التعصيب ، والحرمان لا سبيل إليه ، فإنها وأخاها في درجة واحدة ، وهي لا تزاحم البنت ، فإذا لم يسقط أخوها بالبنت لم تسقط هي بها أيضا ، فإنها لو سقطت بالبنت ولم يسقط أخوها بها لكان أقوى منها وأقرب إلى الميت ، وليس كذلك ، وأيضا فلو أسقطتها البنت إذا انفردت عن أخيها لأسقطتها مع أخيها ، فإن أخاها لا يزيدها قوة ، ولا يحصل لها نفعا في موضع واحد ، بل لا يكون إلا مضرا لها ضرر نقصان أو ضرر حرمان ، كما إذا خلفت زوجا وأما وأخوين لأم وأختا لأب وأم ، فإنها يفرض لها النصف عائلا ، وإن كان معها أخوها سقطا معا ، ولا تنتفع له في الفرائض في موضع واحد ، فلو أسقطتها البنت إذا انفردت لأسقطتها بطريق الأولى مع من يضعفها ولا يقويها ، وأيضا فإن البنت إذا لم تسقط ابن الأخ وابن العم وابن عم الأب والجد وإن بعد فأن لا تسقط الأخت مع قربها بطريق الأولى .

وأيضا فإن قاعدة الفرائض إسقاط البعيد بالقريب ، وتقديم الأقرب على الأبعد ، وهذا عكس ذلك فإنه يتضمن تقديم الأبعد جدا الذي بينه وبين الميت وسائط كثيرة على الأقرب الذي ليس بينه وبين الميت إلا واسطة الأب وحده ، فكيف يرث ابن عم جد الميت مثلا مع البنت وبينه وبين الميت وسائط كثيرة وتحرم الأخت القريبة التي ركضت معه في صلب أبيه ورحم أمه ؟ هذا من المحال الممتنع شرعا ، فهذا من جهة الميزان .

وأما من جهة فهم النص فإن الله - سبحانه - قال في الأخ : { وهو يرثها إن لم يكن لها ولد } ولم يمنع ذلك [ ص: 276 ] ميراثه منها إذا كان الولد أنثى ، فهكذا قوله : { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك } لا ينفي أن ترث غير النصف مع إناث الولد أو ترث الباقي إذا كان نصفا ; لأن هذا غير الذي أعطاها إياه ، فرضا مع عدم الولد ، فتأمله فإنه ظاهر جدا ، وأيضا فالأقسام ثلاثة : إما أن يقال يفرض لها النصف مع البنت ، أو يقال تسقط معها بالكلية ، أو يقال تأخذ ما فضل بعد فرض البنت أو البنات ، والأول ممتنع بالنص والقياس ، فإن الله - سبحانه - إنما فرض لها النصف مع عدم الولد ، فلا يجوز إلغاء هذا الشرط وفرض النصف لها مع وجوده ، والله - سبحانه - إنما أعطاها النصف إذا كان الميت كلالة لا ولد له ولا والد ، فإذا كان له ولد لم يكن الميت كلالة فلا يفرض لها معه ، وأما القياس فإنها لو فرض لها النصف مع وجود البنت لنقصت البنت عن النصف إذا عالت الفريضة كزوجة أو زوج وبنت وأخت وإخوة ، والإخوة لا يزاحمون الأولاد لا بفرض ولا تعصيب ، فإن الأولاد أولى منهم ، فبطل فرض النصف ، وبطل سقوطها بما ذكرناه ، فتعين القسم الثالث وهو أن تكون عصبة لها ما بقي ، وهي أولى به من سائر العصبات الذين هم أبعد منها ، وبهذا جاءت السنة الصحيحة الصريحة التي قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوافق قضاؤه كتاب ربه والميزان الذي أنزله مع كتابه ، وبذلك قضى الصحابة بعده كابن مسعود ومعاذ بن جبل وغيرهما .

فإن قيل : لكن خرجتم عن قوله صلى الله عليه وسلم : { ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي فلأولى رجل ذكر } فإذا أعطينا البنت فرضها وجب أن يعطى الباقي لابن الأخ أو العم أو ابنه دون الأخت ، فإنه رجل ذكر ، فأنتم عدلتم عن هذا النص وأعطيتموه الأنثى ، فكنا أسعد بالنص منكم ، وعملنا به وبقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أعطى البنت النصف وبنت الابن السدس والباقي للأخت إذا لم يكن هناك أولى رجل ذكر ، فكانت الأخت عصبة ، وهذا توسط بين قولكم وبين قول من أسقط الأخت بالكلية .

وهذا مذهب إسحاق بن راهويه ، وهو اختيار أبي محمد بن حزم ، وسقوطها بالكلية مذهب ابن عباس كما قال عبد الرزاق ، أنبأ معمر عن الزهري عن أبي سلمة : قيل لابن عباس : رجل ترك ابنته ، وأخته لأبيه ، وأمه ، فقال : لابنته النصف ولأمه السدس وليس لأخته مما ترك ، وهو لعصبته ، فقال له السائل : إن عمر قضى بغير ذلك جعل للبنت النصف ، وللأخت النصف ، فقال ابن عباس : أأنتم أعلم أم الله ؟ قال معمر : فذكرت ذلك لابن طاوس فقال لي : أخبرني أبي أنه سمع ابن عباس يقول : قال الله - عز وجل - : { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك } فقلتم أنتم : لها النصف ، وإن كان له ولد .

وقال ابن أبي مليكة عن ابن عباس : أمر ليس في كتاب الله ولا في قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وستجدونه في الناس كلهم ، ميراث الأخت مع البنت .

[ ص: 277 ] فالجواب أن نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها حق يصدق بعضها بعضا ، ويجب الأخذ بجميعها ، ولا يترك له نص إلا بنص آخر ناسخ له ، لا يترك بقياس ولا رأي ولا عمل أهل بلد ولا إجماع ، ومحال أن تجمع الأمة على خلاف نص له إلا أن يكون له نص آخر ينسخه ، فقوله صلى الله عليه وسلم : { فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر } عام قد خص منه قوله صلى الله عليه وسلم : { تحوز المرأة ثلاث مواريث : عتيقها ، ولقيطها ، وولدها الذي لاعنت عليه } " وأجمع الناس على أنها عصبة عتيقها ، واختلفوا في كونها عصبة لقيطها وولدها المنفي باللعان ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تفصل بين المتنازعين ، فإذا خصت منه هذه الصور بالنص وبعضها مجمع عليه خصت منه هذه الصورة لما ذكرناه من الدلالة .

فإن قيل : قوله { : فلأولى رجل ذكر } إنما هو في الأقارب الوارثين بالنسب وهذا لا تخصيص فيه .

قيل فأنتم تقدمون المعتق على الأخت مع البنت ، وليس من الأقارب ، فخالفتم النصين معا ، وهو صلى الله عليه وسلم قال : { فلأولى رجل ذكر } " فأكده بالذكورة ليبين أن العاصب بنفسه المذكور هو الذكر دون الأنثى وأنه لم يرد بلفظ الرجل ما يتناول الذكر والأنثى كما في قوله : { من وجد متاعه عند رجل قد أفلس } ونحوه مما يذكر فيه لفظ الرجل والحكم يعم النوعين ، وهو نظير قوله في حديث الصدقات { فابن لبون ذكر } " ليبين أن المراد الذكر دون الأنثى ، ولم يتعرض في الحديث للعاصب بغيره ، فدل قضاؤه الثابت عنه في إعطاء الأخت مع البنت وبنت البنت ما بقي أن الأخت عصبة بغيرها ، فلا تنافي بينه وبين قوله : { فلأولى رجل ذكر } بل هذا إذا لم يكن ثم عصبة بغيره ، بل كان العصبة عصبة بأنفسهم ، فيكون أولاهم وأقربهم إلى الميت أحقهم بالمال ، وأما إذا اجتمع العصبتان فقد دل حديث ابن مسعود الصحيح أن تعصيب الأخت أولى من تعصيب من هو أبعد منها ، فإنه أعطاها الباقي ولم يعطه لابن عمه مع القطع ، فإن العرب بنو عم بعضهم لبعض ، فقريب وبعيد ، ولا سيما إن كان ما حكاه ابن مسعود من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء عاما كليا ، فالأمر حينئذ يكون أظهر وأظهر .

فصل

ومما يبين صحة قول الجمهور أن - قوله تعالى - : { ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك } إنما يدل منطوقه على أنها ترث النصف مع عدم الولد ، والمفهوم إنما يقتضي أن الحكم في المسكوت ليس مماثلا للحكم في المنطوق ، فإذا كان فيه تفصيل حصل بذلك مقصود المخالفة ، فلا يجب أن يكون كل صورة من صور المسكوت مخالفة لكل صور [ ص: 278 ] المنطوق ، ومن توهم ذلك فقد توهم باطلا ، فإن المفهوم إنما يدل بطريق التعليل أو بطريق التخصيص ، والحكم إذا ثبت لعلة فانتفت في بعض الصور أو جميعها جاز أن يخلفها علة أخرى .

وأما قصد التخصيص فإنه يحصل بالتفصيل ، وحينئذ فإذا نفينا إرثها مع ذكور الولد أو نفينا إرثها النصف فرضا مع إناثهم وفينا بدليل الخطاب .

فصل [ المراد بأولى رجل ذكر في المواريث ]

ومما يبين أن المراد بقوله : { فلأولى رجل ذكر } " العصبة بنفسه لا بغيره أنه لو كان بعد الفرائض إخوة وأخوات أو بنون وبنات أو بنات ابن وبنو ابن لم ينفرد الذكر بالباقي دون الإناث بالنص والإجماع ، فتعصيب الأخت بالبنت كتعصيبها بأخيها ، فإذا لم يكن قوله : { فلأولى رجل ذكر } " موجبا لاختصاص أخيها دونها لم يكن موجبا لاختصاص ابن عم الجد بالباقي دونها .

يوضحه أنه لو كان معها أخوها لم تسقط ، وكان الباقي بعد فرض البنات بينها وبين أخيها . هذا ، وأخوها أقرب إلى الميت من الأعمام وبنيهم ، فإذا لم يسقطها الأخ فلأن لا يسقطها ابن عم الجد بطريق الأولى والأحرى ، وإذا لم يسقطها ورثت دونه ، لكونها أقرب منه ، بخلاف الأخ فإنها تشاركه ، لاستوائهما في القرب من الميت ، فهذا محض القياس والميزان الموافق لدلالة الكتاب ولقضاء النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذه الطريق فلا تخصيص في الحديث ، بل هو على عمومه ، وهذه الطريق أفقه وألطف .

يوضح ذلك أن قاعدة الفرائض أن جنس أهل الفروض فيها مقدمون على جنس العصبة ، سواء كان ذا فرض محض أو كان له مع فرضه تعصيب في حال إما بنفسه وإما بغيره ، والأخوات من جنس أهل الفرائض ، فيجب تقديمهن على من هو أبعد منهن ممن لا يرث إلا بالتعصيب المحض كالأعمام وبنيهم وبني الإخوة ، والاستدلال بهذا الحديث على حرمانهن مع البنات كالاستدلال على حرمانهن مع إخوتهن وحرمان بنات الابن ، بل البنات أنفسهن مع إخوتهن ، وهذا باطل بالنص ، والإجماع ، فكذا الآخر .

ومما يوضحه أنا رأينا قاعدة الفرائض أن البعيد من العصبات يعصب من هو أقرب منه إذا لم يكن له فرض ، كما إذا كان بنات وبنات ابن وأسفل منهن ابن ابن ابن فإنه يعصبهن [ ص: 279 ] فيحصل لهن الميراث بعد أن كن محرومات ، وأما أن البعيد من العصبات يمنع الأقرب من الميراث بعد أن كان وارثا فهذا ممتنع شرعا وعقلا ، وهو عكس قاعدة الشريعة ، والله الموفق .

وفي الحديث مسلك آخر ، وهو أن قوله : { ألحقوا الفرائض بأهلها } المراد به من كان من أهلها في الجملة ، وإن لم يكن في هذه الحال من أهلها كما في اللفظ الآخر { اقسموا المال بين أهل الفرائض } وهذا أعم من كونه من أهل الفرائض بالقوة أو بالفعل ، فإذا كانوا كلهم من أهل الفرائض بالفعل كان الباقي للعصبة ، وإن كان فيهم من هو من أهل الفرائض بالقوة وإن حجب عن الفرض بغيره دخل في اللفظ الأول وإن لم يكن لأولى رجل ذكر معه شيء ، وإنما يكون له إذا كان أهل الفرائض مطلقا معدومين ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية