الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ويكثر من التلبية عقيب الصلوات وكلما علا شرفا أو هبط واديا أو لقي ركبا وبالأسحار ) لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يلبون [ ص: 446 ] في هذه الأحوال ، والتلبية في الإحرام على مثال التكبير في الصلاة ، فيؤتي بها عند الانتقال من حال إلى حال ( ويرفع صوته بالتلبية ) لقوله عليه الصلاة والسلام { أفضل الحج العج والثج } فالعج رفع الصوت بالتلبية ، والثج إسالة الدم .

التالي السابق


( قوله كانوا يلبون إلخ ) في مصنف ابن أبي شيبة : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن خيثمة قال : كانوا يستحبون التلبية عند ست : دبر الصلاة ، وإذا استقلت بالرجل راحلته ، وإذا صعد شرفا أو هبط واديا ، وإذا لقي بعضهم بعضا ، وبالأسحار . ثم المذكور في ظاهر الرواية في أدبار الصلوات من غير تخصيص كما هو النص وعليه مشى في البدائع فقال : فرائض كانت أو نوافل ، وخصه الطحاوي بالمكتوبات دون النوافل والفوائت فأجراها مجرى التكبير في أيام التشريق ، وعزى إلى ابن ناجية في فوائد عن جابر قال { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر إذا لقي ركبا وذكر الكل سوى استقلال الراحلة } وذكره الشيخ تقي الدين في الإمام ولم يعزه .

وذكر [ ص: 446 ] في النهاية حديث خيثمة ، هذا وذكر مكان استقلت راحلته إذا استعطف الرجل راحلته . والحاصل أنا عقلنا من الآثار اعتبار التلبية في الحج على مثال التكبير في الصلاة ، فقلنا : السنة أن يأتي بها عند الانتقال من حال إلى حال . والحاصل أنها مرة واحدة شرط والزيادة سنة ، قال في المحيط : حتى تلزمه الإساءة بتركها .

وروى الإمام أحمد رحمه الله عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : { من أضحى يوما محرما ملبيا حتى غربت الشمس غربت بذنوبه فعاد كما ولدته أمه } وعن سهل بن سعد عنه عليه الصلاة والسلام { ما من ملب يلبي إلا لبى ما عن يمينه وعن شماله } صححه الحاكم ، وهذا دليل ندب الإكثار منها غير مقيد بتغير الحال ، فظهر أن التلبية فرض وسنة ومندوب . ويستحب أن يكررها كلما أخذ فيها ثلاث مرات ويأتي بها على الولاء ولا يقطعها بكلام ، ولو رد السلام في خلالها جاز ولكن يكره لغيره السلام عليه في حالة التلبية ، وإذا رأى شيئا يعجبه قال : لبيك إن العيش عيش الآخرة كما قدمناه عنه عليه الصلاة والسلام ( قوله ويرفع صوته بالتلبية ) وهو سنة فإن تركه كان مسيئا ولا شيء عليه ولا يبالغ فيه فيجهد نفسه كي لا يتضرر على أنه ذكر ما يفيد بعض ذلك .

قال أبو حازم : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبلغون الروحاء حتى تبح حلوقهم من التلبية ، إلا أنه يحمل على الكثرة مع قلة المسافة ، أو هو عن زيادة وجدهم ، وشوقهم بحيث يغلب الإنسان عن الاقتصاد في نفسه . وكذا العج في الحديث الذي رواه فإنه ليس مجرد رفع الصوت بل بشدة .

وهو ما أخرج الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال { قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : من الحاج ، قال : الشعث التفل ، فقام آخر فقال : أي الحج أفضل يا رسول الله ؟ قال : العج والثج ، فقام آخر فقال : ما السبيل يا رسول الله ؟ قال : الزاد والراحلة } قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن يزيد الجوزي المكي ، وقد تكلم فيه من قبل حفظه . وأخرجا أيضا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أي الحج أفضل ؟ قال : العج والثج } ورواه الحاكم وصححه .

وقال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي فديك عن الضحاك بن عثمان . ومحمد بن المنكدر وهو الذي روى عنه الضحاك لم يسمع من عبد الرحمن بن يربوع .

وفي مسند ابن أبي شيبة : حدثنا أبو أسامة عن أبي حنيفة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { أفضل الحج العج والثج } والعج : العجيج بالتلبية ، والثج : نحر الدماء . وفي الكتب الستة { أنه عليه الصلاة والسلام قال : أتاني جبريل عليه السلام فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال ، أو قال : بالتلبية } وفي صحيح البخاري عن أنس قال { صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعا ، والعصر بذي الحليفة ركعتين ، وسمعتهم يصرخون بهما جميعا بالحج والعمرة في التلبية } " وعن ابن عباس رضي الله عنهما رفع الصوت بالتلبية زينة الحج " وعنه { خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة فمررنا بواد فقال : أي واد هذا ؟ قالوا : وادي الأزرق ، قال : كأني أنظر إلى موسى بن عمران واضعا إصبعه في أذنه له جؤار إلى الله بالتلبية مارا بهذا الوادي ، ثم سرنا الوادي حتى أتينا على ثنية فقال : أي ثنية هذه ؟ قالوا : هرشى أو لفت ، فقال : كأني أنظر [ ص: 447 ] إلى يونس على ناقة حمراء خطام ناقته ليف خلبة وعليه جبة له من صوف مارا بهذا الوادي ملبيا } أخرجه مسلم ولا يخفى أنه لا منافاة بين قولنا لا يجهد نفسه بشدة رفع صوته وبين الأدلة الدالة على استحباب رفع الصوت بشدة إذ لا تلازم بين ذلك وبين الإجهاد ، إذ قد يكون الرجل جهوري الصوت عاليه طبعا فيحصل الرفع العالي مع عدم تعبه به .

والمعنى فيه أنها من شعائر الحج والسبيل فيما هو كذلك الإظهار والإشهار كالأذان ونحوه . ويستحب أن يصلي على النبي المعلم للخير صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من التلبية ، ويخفض صوته بذلك




الخدمات العلمية