الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 55 ] مسألة: في حياة الخضر وادعاء لقائه [ ص: 56 ]

مسألة في الخضر، هل هو حي الآن أم لا؟ ومن ادعى أنه لقيه واجتمع به في غير النوم، إذا كذبه إنسان هل يأثم أم لا؟

الجواب: الحمد لله. ليس في دعوى المدعي اجتماعه بالخضر فائدة في دين المسلمين، سواء كان صادقا أو كاذبا.

بل اتفق المسلمون على أنه لا يرجع إلى الخضر ولا إلى من ينقل عن الخضر من غير طريق النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من دينهم.

بل لو نقل ناقل عن نبي من الأنبياء، كموسى وعيسى، من غير أن يكون نبينا صلى الله عليه وسلم واسطة في ذلك النقل، لم يرجع إليه المسلمون في دينهم.

بل في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورقة من التوراة، فقال: «أمتهوكون يا ابن الخطاب؟! لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان موسى حيا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم»، وفي رواية: «لما وسعه [ ص: 58 ] إلا اتباعي».

وثبت في الصحيح أن عيسى عليه الصلاة والسلام إذا نزل إلى الأرض، فإنما يحكم في الأمة بكتاب ربها وسنة نبيها.

فالخضر لو كان موجودا بين الناس لم يرجع إليه المسلمون في شيء من دينهم.

فإن لم يكن نبيا، كما قاله الجمهور، كالشريف أبي علي بن أبي موسى وغيره، فمن هذه الأمة من هو أفضل منه، كأبي بكر وعمر وغيرهما من المهاجرين والأنصار.

وإن كان نبيا، كما قاله طائفة منهم أبو الفرج ابن الجوزي، وأبو عمرو ابن الصلاح، فمحمد وعيسى صلى الله عليهما وسلم أفضل منه.

وعيسى لا ينزل إلا بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، لا بشريعته.

وإذا كان وجود الخضر وحياته لا يتعلق بدين المسلمين، ولا يرجعون إليه في شيء من دينهم، كان كثرة الكلام في وجوده من باب الضلالات [ ص: 59 ] والجهالات، وتطريق الناس على الأكاذيب والأغاليط.

وقد اتفق أئمة الدين على أن رجلا لو روى حديثا في زماننا عن النبي صلى الله عليه وسلم عن غير الرجال المعروفين عند الأئمة لم يلتفت إليه، مثل ما يرويه بعض الضلال عن شيخ اسمه «رتن»، مثل ما ذكره أبو طالب في إسناد المسبعات أن رقبة بن مصقلة رواها عن الخضر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأمثال ذلك.

والله قد بعث محمدا بدين بينه وبلغه، وهو محفوظ محروس لا يحتاج فيه المسلمون إلى أحد غير نبيهم، وأمته قد أكمل الله لهم الدين، وأتم عليهم النعمة، ورضي لهم الإسلام دينا. [ ص: 60 ]

فهذا أصل يجب على كل مسلم معرفته.

وبعد هذا، فالصواب أن الخضر رضي الله عنه مات قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يدرك زمنه، ولا رآه، ولا ذكر أحد من الصحابة أنه كان موجودا، كما قد بسطت دلائل ذلك في مواضع كثيرة.

وكل من ذكر أنه حي، فإن كان صادقا فهو ملبس عليه; رأى رجلا ظن أنه الخضر غلطا منه، أو قال له رجل: أنا الخضر -وكان كاذبا-، أو تخيل شيئا في نفسه ظنه الخضر في الخارج.

وإن كان كاذبا كان من أهل الإفك والبهتان المستحقين التعزير، مثل كثير ممن يتظاهر برؤيته ليحسن الناس به الظن ويجتمعوا عليه; فإن هؤلاء كلهم كذابون دجالون يستحقون العقوبة البليغة. وقد رأينا من هؤلاء [ ص: 61 ] طوائف، منهم من عزر، ومنهم من تاب قبل أن يحتاج إلى التعزير.

ولهذا كان المثبتون لوجوده منهم من يجعله مغيبا، ومنهم من يجعل ذلك مرتبة، كما يقولون ذلك في «الغوث»، وكل ذلك غلط كما قد بسط في موضعه.

وطائفة ثالثة تعبر بالخضر وإلياس عن حالين للقلب، وهما: القبض، والبسط، كما فعل ابن عربي صاحب «الفصوص»، وأمثاله من الملاحدة الباطنية، والله أعلم.

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية