الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله تعالى : ( منهم من كلم الله ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : المراد منه من كلمه الله تعالى ، والهاء تحذف كثيرا كقوله تعالى : ( وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ) [ الزخرف : 71 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قرئ ( كلم الله ) بالنصب ، والقراءة الأولى أدل على الفضل ، لأن كل مؤمن فإنه يكلم الله على ما قال عليه السلام : " المصلي مناج ربه " إنما الشرف في أن يكلمه الله تعالى ، وقرأ اليماني : ( كالم الله ) من المكالمة ، ويدل عليه قولهم : كليم الله بمعنى مكالمه .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : اختلفوا في أن من كلمه الله فالمسموع هو الكلام القديم الأزلي ، الذي ليس بحرف ولا صوت أم غيره ؟ فقال الأشعري وأتباعه : المسموع هو ذلك فإنه لما لم يمتنع رؤية ما ليس بمكيف ، فكذا لا يستبعد سماع ما ليس بمكيف ، وقال الماتريدي : سماع ذلك الكلام محال ، وإنما المسموع هو الحرف والصوت .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : اتفقوا على أن موسى عليه السلام مراد بقوله تعالى : ( منهم من كلم الله ) قالوا وقد سمع من قوم موسى السبعون المختارون وهم الذين أرادهم الله بقوله : ( واختار موسى قومه سبعين رجلا ) [ الأعراف : 155 ] وهل سمعه محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ؟ اختلفوا فيه منهم من قال : نعم بدليل قوله : ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ) [ النجم : 10 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : إن قوله تعالى : ( منهم من كلم الله ) المقصود منه بيان غاية منقبة أولئك الأنبياء الذين كلم الله تعالى ، ولهذا السبب لما بالغ في تعظيم موسى عليه السلام ، قال : ( وكلم الله موسى تكليما ) [ النساء : 164 ] ثم جاء في القرآن مكالمة بين الله وبين إبليس ، حيث قال : ( فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم ) [ الحجر : 36 - 38 ] إلى آخر هذه الآيات ، وظاهر هذه الآيات يدل على مكالمة كثيرة بين الله وبين إبليس فإن كان ذلك يوجب غاية الشرف فكيف حصل لإبليس الذم ؟ وإن لم يوجب شرفا فكيف ذكره في معرض التشريف لموسى عليه السلام حيث قال : ( وكلم الله موسى تكليما ) [ النساء : 164 ] ؟

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أن قصة إبليس ليس فيها ما يدل على أنه تعالى قال تلك الجوابات معه من غير واسطة فلعل [ ص: 171 ] الواسطة كانت موجودة .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( ورفع بعضهم درجات ) ففيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن المراد منه بيان أن مراتب الرسل متفاوتة ، وذلك لأنه تعالى اتخذ إبراهيم خليلا ، ولم يؤت أحدا مثله هذه الفضيلة ، وجمع لداود الملك والنبوة ولم يحصل هذا لغيره ، وسخر لسليمان الإنس والجن والطير والريح ، ولم يكن هذا حاصلا لأبيه داود عليه السلام ، ومحمد عليه السلام مخصوص بأنه مبعوث إلى الجن والإنس وبأن شرعه ناسخ لكل الشرائع ، وهذا إن حملنا الدرجات على المناصب والمراتب ، أما إذا حملناها على المعجزات ففيه أيضا وجه ؛ لأن كل واحد من الأنبياء أوتي نوعا آخر من المعجزة لائقا بزمانه ، فمعجزات موسى عليه السلام ، وهي قلب العصا حية ، واليد البيضاء ، وفلق البحر ، كان كالشبيه بما كان أهل ذلك العصر متقدمين فيه وهو السحر ، ومعجزات عيسى عليه السلام وهي إبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى ، كانت كالشبيه بما كان أهل ذلك العصر متقدمين فيه ، وهو الطب ، ومعجزة محمد عليه السلام ، وهي القرآن كانت من جنس البلاغة والفصاحة والخطب والأشعار ، وبالجملة فالمعجزات متفاوتة بالقلة والكثرة ، وبالبقاء وعدم البقاء ، وبالقوة وعدم القوة ، وفيه وجه ثالث ، وهو أن يكون المراد بتفاوت الدرجات ما يتعلق بالدنيا ، وهو كثرة الأمة والصحابة وقوة الدولة ، فإذا تأملت الوجوه الثلاثة علمت أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان مستجمعا للكل فمنصبه أعلى ومعجزاته أبقى وأقوى وقومه أكثر ودولته أعظم وأوفر .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : أن المراد بهذه الآية محمد عليه السلام ، لأنه هو المفضل على الكل ، وإنما قال : ( ورفع بعضهم درجات ) على سبيل التنبيه والرمز كمن فعل فعلا عظيما فيقال له : من فعل هذا؟ فيقول : أحدكم أو بعضكم ويريد به نفسه ، ويكون ذلك أفخم من التصريح به ، وسئل الحطيئة عن أشعر الناس ، فذكر زهيرا والنابغة ، ثم قال : ولو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه ، ولو قال : ولو شئت لذكرت نفسي لم يبق فيه فخامة .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : المفهوم من قوله : ( ورفع بعضهم درجات ) هو المفهوم من قوله : ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ) فما الفائدة في التكرير ؟ وأيضا قوله : ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ) كلام كلي ، وقوله بعد ذلك : ( منهم من كلم الله ) شروع في تفصيل تلك الجملة ، وقوله بعد ذلك : ( ورفع بعضهم درجات ) إعادة لذلك الكلي ، ومعلوم أن إعادة الكلام بعد الشروع في تفصيل جزئياته يكون مستدركا .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أن قوله : ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ) يدل على إثبات تفضيل البعض على البعض ، فأما أن يدل على أن ذلك التفضيل حصل بدرجات كثيرة أو بدرجات قليلة فليس فيه دلالة عليه فكان قوله : ( ورفع بعضهم درجات ) فيه فائدة زائدة فلم يكن تكريرا .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا ) ففيه سؤالات :

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الأول : أنه تعالى قال في أول الآية : ( فضلنا بعضهم على بعض ) ثم عدل عن هذا النوع من الكلام إلى المغايبة فقال : ( منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات ) ثم عدل من المغايبة إلى النوع الأول فقال : ( وآتينا عيسى ابن مريم البينات ) فما الفائدة في العدول عن المخاطبة إلى المغايبة ثم عنها إلى المخاطبة مرة أخرى ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 172 ] والجواب : أن قوله : ( منهم من كلم الله ) أهيب وأكثر وقعا من أن يقال : منهم من كلمنا ، ولذلك قال : ( وكلم الله موسى تكليما ) [ النساء : 164 ] فلهذا المقصود اختار لفظة الغيبة .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله : ( وآتينا عيسى ابن مريم البينات ) فإنما اختار لفظ المخاطبة ، لأن الضمير في قوله : ( وآتينا ) ضمير التعظيم ، وتعظيم المؤتى يدل على عظمة الإيتاء .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : لم خص موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر ؟ وهل يدل ذلك على أنهما أفضل من غيرهما ؟

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : سبب التخصيص أن معجزاتهما أبر وأقوى من معجزات غيرهما وأيضا فأمتهما موجودون حاضرون في هذا الزمان وأمم سائر الأنبياء ليسوا موجودين ، فتخصيصهما بالذكر تنبيه على الطعن في أمتهما ، كأنه قيل : هذان الرسولان مع علو درجتهما وكثرة معجزاتهما لم يحصل الانقياد من أمتهما ، بل نازعوا وخالفوا ، وعن الواجب عليهم في طاعتهما أعرضوا .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثالث : تخصيص عيسى ابن مريم بإيتاء البينات ، يدل أو يوهم أن إيتاء البينات ما حصل في غيره ، ومعلوم أن ذلك غير جائز ، فإن قلت : إنما خصهما بالذكر لأن تلك البينات أقوى ؟ فنقول : إن بينات موسى عليه السلام كانت أقوى من بينات عيسى عليه السلام ، فإن لم تكن أقوى فلا أقل من المساواة .

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب : المقصود منه التنبيه على قبح أفعال اليهود ، حيث أنكروا نبوة عيسى عليه السلام مع ما ظهر على يديه من البينات اللائحة .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الرابع : البينات جمع قلة ، وذلك لا يليق بهذا المقام .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : لا نسلم أنه جمع قلة ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية