الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          البعث والجزاء

                          ذكرت آيات البعث والجزاء في هذه السورة تارة خبرا مجردا مؤكدا كقوله : ( ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ) ( 129 وقوله : ( إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين ) ( 134 ) أو غير مؤكد للاستغناء عن التوكيد في السياق كقوله : ( والموتى يبعثهم الله ) ( 36 ) وكفى بالاستناد إلى القادر على كل شيء استغناء عن التوكيد . كما قال في آخر السورة : ( ثم إلى ربكم مرجعكم ) ( 164 ) . والأسلوب الغالب في بيان هذه العقيدة إيرادها في سياق ذكر الجزاء [ ص: 250 ] على الأعمال والبشارة والإنذار والوعد والوعيد ، وأبلغ الآيات فيه التذكير بما يكون في ذلك اليوم كقوله : ( ويوم نحشرهم جميعا ) ( 22 ) إلى آخر آية ( 24 ) وقوله : ( ولو ترى إذ وقفوا على النار ) ( 27 ) إلى آخر آية ( 32 ) وقد جاء هذا بعد حكاية إنكار البعث عنهم وحصرهم الحياة في الدنيا ، فبين لهم سوء مصيرهم في الآخرة التي ينكرونها لعدم الاستعداد لها بتزكية أنفسهم ، وختم السياق بحصر متاع الحياة الدنيا باللعب واللهو الذي هو شأن الأطفال وتفضيل الآخرة عليها . ويناسب هذا المعنى قوله في الآية : ( وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع ) ( 70 ) الآية . وكل هذه الآيات في الجزء السابع ، ويقرب منه ما جاء في أسلوب حشر الإنس والجن وبيان ما يقوله يومئذ كل منهما في الآخر ، وسؤال الله إياهم عن مجيء الرسل منهم إليهم يقصون عليهم آيات ربهم وينذرونهم لقاء ذلك اليوم ، وشهادتهم على أنفسهم - ( راجع تفسير الآيات ) ( 128 - 130 ) وقد جمع في الآيات ) ( 133 - 135 ) بين الوعيد بسوء عاقبتهم في الدنيا والآخرة جميعا .

                          إذا استقصى القارئ آيات البعث في هذه السورة يراها تخبر بشيء ثابت مقرر ، هو لصدق المخبر به كأنه مسلم ; لإنذار ما يقع في يومه من العذاب للمجرمين عسى أن يتقى ، والبشارة بما أعد فيه للمتقين من الفوز والنعيم عسى أن يسعى له بالإيمان والهدى . ويظن الذين اعتادوا تلقي العقائد من طريق النظريات الجدلية ، أن هذه دعاوى غير برهانية . وإنما هي أساليب خطابية . والصواب أنها أخبار أخبر بها من لا خلاف بين المؤمنين والكفار في صدقه وأمانته ، وقد قام البرهان على رسالته . ولم يأت منكروها بدليل على إنكارها ولا شبهة . فيحتاج إلى إبطالها بالحجة . وإنما كان سبب الإنكار استغراب ما لم يعرف ولم يؤلف في هذه الدار ، وهذا جهل وغفلة من قوم يؤمنون بأن الله تعالى هو الذي بدأ هذا الخلق ، وبأنه هو الذي خلق السموات والأرض ، وأنه قادر على كل شيء ، ولهذا اكتفى في هذه السورة بجعل هذه القضية في ثبوتها كالقضايا المسلمة مع التذكير في بعض الآيات بمشيئة الله النافذة وقدرته الكاملة ، وحكمته في التكليف والجزاء وكونه رحمة منه تعالى وهو غني عن عبادة العباد كالآيات الثلاث 133 - 135 ، ولم يذكر هذه الصفات هنا بأسلوب الاستدلال لأنه لم يحك عن المنكرين شيئا من الاحتجاج ، وما ثم احتجاج ، ولا ما حكاه عنهم في غير هذه السورة من التعجب والاستغراب ، فكان الغرض من سرد الآيات بالأساليب التي أشرنا إليها التأثير في النفس ، فإن من غرائز البشر ومقتضى فطرتهم أن تتأثر أنفسهم وعقولهم بما يتكرر على أسماعهم من كلام الصادقين الموقنين ، ولا سيما إذا كانوا هداة مهديين ، وقد كان فيما نزل قبل هذه السورة حكاية تعجبهم من خبر البعث وتفنيد ذلك بأسلوب إقامة الحجة . ودحض [ ص: 251 ] الشبهة . ومنها سورة ( يس ) وقد تكرر فيها ذكر الحشر والبعث والجزاء ، وختمت بأسلوب المناظرة والاستدلال ، فراجع تفسيرها في مفاتح الغيب للرازي . وذكر مثل ذلك في فواتح السورة التي تليها ( الصافات ) وفي فاتحة سورة ( ق ) ومن الرد عليهم في أثنائها : ( أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد ) ( 50 : 15 ) وقد بينا في تفسير آيات البعث والجزاء في هذه السورة وغيرها ما ينبغي بيانه ، وذكرنا فيه بعض ما ورد في سورة أخرى . فللقارئ أن يراجع ذلك إذا أراد أن يجمع بين الآيات في ذلك .

                          عالم الغيب عقيدة البعث والجزاء مما يجب اعتقاده من أمر الغيب ، ومنه الملائكة والجن والشياطين والجنة والنار ، وقد كانت العرب تؤمن كغيرها من الأمم بالملائكة وقد عبدوهم ، وبوجود الجن وكانوا يزعمون أنهم يظهرون لهم أحيانا بصور الغيلان وأنهم يسمعون أصواتهم وعزفهم ، وأنهم يلقون الشعر في هواجس الشعراء . ويستغنى القارئ عن ذكر ما ورد في هذه السورة من الآيات في ذلك بمراجعة كلمات الملائكة والشياطين والغيلان والروح والأرواح والجنة والنار في فهرس هذا الجزء وما قبله وكذا غيرهما من أجزاء التفسير وبمراجعة ما كتبناه في تفسير اسم الله اللطيف ، ومنها تعلم أن العلوم الكونية قد وصلت إلى درجة لم يعد يستغرب معها شيء من أخبار عالم الغيب ولا سيما علم الكيمياء وعلم الكهرباء لكن من عجائب تفاوت أفهام البشر أنه لا يزال الكثيرون ينكرون من أخبار الرسل ما لم يألفوا ، ولا يرون المعروف منها إلا ما عرفوا ، وإذا قيل لهم فيه أو في مثله إنه قد اكتشفه " الهر " فلان و " المستر " علان مثلا قبلوه مذعنين . وقالوا إنه الحق المبين ، وهذا شر التقليد .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية