الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 173 ] المسألة الأولى : تعلق هذه بما قبلها ، هو أن الرسل بعدما جاءتهم البينات ، ووضحت لهم الدلائل والبراهين ، اختلفت أقوامهم ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، وبسبب ذلك الاختلاف تقاتلوا وتحاربوا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : احتج القائلون بأن كل الحوادث بقضاء الله وقدره بهذه الآية ، وقالوا : تقدير الآية : ولو شاء الله أن لا يقتتلوا لم يقتتلوا ، والمعنى أن عدم الاقتتال لازم لمشيئة عدم الاقتتال ، وعدم اللازم يدل على عدم الملزوم ، فحيث وجد الاقتتال علمنا أن مشيئة عدم الاقتتال مفقودة ، بل كان الحاصل هو مشيئة الاقتتال ، ولا شك أن ذلك الاقتتال معصية ، فدل ذلك على أن الكفر والإيمان والطاعة والعصيان بقضاء الله وقدره ومشيئته ، وعلى أن قتل الكفار وقتالهم للمؤمنين بإرادة الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما المعتزلة فقد أجابوا عن الاستدلال ، وقالوا : المقصود من الآية بيان أن الكفار إذا قتلوا فليس ذلك بغلبة منهم لله تعالى ، وهذا المقصود يحصل بأن يقال : إنه تعالى لو شاء لأهلكهم وأبادهم أو يقال : لو شاء لسلب القوى والقدر منهم أو يقال : لو شاء لمنعهم من القتال جبرا وقسرا وإذا كان كذلك فقوله : ( ولو شاء الله ) المراد منه هذه الأنواع من المشيئة ، وهذا كما يقال : لو شاء الإمام لم يعبد المجوس النار في مملكته ، ولم تشرب النصارى الخمر ، والمراد منه المشيئة التي ذكرناها ، وكذا ههنا ، ثم أكد القاضي هذه الأجوبة وقال : إذا كانت المشيئة تقع على وجوه ، وتنتفي على وجوه ؛ لم يكن في الظاهر دلالة على الوجه المخصوص ، لا سيما وهذه الأنواع من المشيئة متباينة متنافية .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أن أنواع المشيئة وإن اختلفت وتباينت إلا أنها مشتركة في عموم كونها مشيئة ، والمذكور في الآية في معرض الشرط هو المشيئة من حيث إنها مشيئة ، لا من حيث إنها مشيئة خاصة ، فوجب أن يكون هذا المسمى حاصلا ، وتخصيص المشيئة بمشيئة خاصة ، وهي إما مشيئة الهلاك ، أو مشيئة سلب القوى والقدر ، أو مشيئة القهر والإجبار ، تقييد للمطلق وهو غير جائز ، وكما أن هذا التخصيص على خلاف ظاهر اللفظ فهو على خلاف الدليل القاطع ، وذلك لأن الله تعالى إذا كان عالما بوقوع الاقتتال ، والعلم بوقوع الاقتتال حال عدم وقوع الاقتتال جمع بين النفي والإثبات ، وبين السلب والإيجاب ، فحال حصول العلم بوجود الاقتتال لو أراد عدم الاقتتال لكان قد أراد الجمع بين النفي والإثبات وذلك محال ، فثبت أن ظاهر الآية على ضد قولهم ، والبرهان القاطع على ضد قولهم ، وبالله التوفيق .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ) فقد ذكرنا في أول الآية أن المعنى : ولو شاء لم يختلفوا ، وإذا لم يختلفوا لم يقتتلوا ، وإذا اختلفوا فلا جرم اقتتلوا ، وهذه الآية دالة على أن الفعل لا يقع إلا بعد حصول الداعي ، لأنه بين أن الاختلاف يستلزم التقاتل ، والمعنى أن اختلافهم في الدين يدعوهم إلى المقاتلة ، وذلك يدل على أن المقاتلة لا تقع إلا لهذا الداعي ، وعلى أنه متى حصل هذا الداعي وقعت المقاتلة ، فمن هذا الوجه يدل على أن الفعل ممتنع الوقوع عند عدم الداعي ، وواجب عند حصول الداعي ، ومتى ثبت ذلك ظهر أن الكل بقضاء الله وقدره ، لأن الدواعي تستند لا محالة إلى داعية يخلقها الله في العبد دفعا للتسلسل ، فكانت الآية دالة أيضا من هذا الوجه على صحة مذهبنا .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( ولو شاء الله ما اقتتلوا ) فإن قيل : فما الفائدة في التكرير ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : قال الواحدي رحمه الله تعالى : إنما كرره تأكيدا للكلام وتكذيبا لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من [ ص: 174 ] عند أنفسهم ولم يجر به قضاء ولا قدر من الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( ولكن الله يفعل ما يريد ) فيوفق من يشاء ويخذل من يشاء ، لا اعتراض عليه في فعله واحتج الأصحاب بهذه الآية على أنه تعالى هو الخالق لإيمان المؤمنين ، وقالوا : لأن الخصم يساعد على أنه تعالى يريد الإيمان من المؤمن ، ودلت الآية على أنه يفعل كل ما يريد ، فوجب أن يكون الفاعل لإيمان المؤمن هو الله تعالى ، وأيضا لما دل على أنه يفعل كل ما يريد ، فلو كان يريد الإيمان من الكفار لفعل فيهم الإيمان ، ولكانوا مؤمنين ، ولما لم يكن كذلك دل على أنه تعالى لا يريد الإيمان منهم ، فكانت هذه الآية دالة على مسألة خلق الأعمال ، وعلى مسألة إرادة الكائنات ، والمعتزلة يقيدون المطلق ويقولون : المراد : يفعل كل ما يريد من أفعال نفسه ، وهذا ضعيف : لوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه تقييد للمطلق .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه على هذا التقييد تصير الآية بيانا للواضحات فإنه يصير معنى الآية أنه يفعل ما يفعله .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن كل أحد كذلك ، فلا يكون في وصف الله تعالى بذلك دليلا على كمال قدرته وعلو مرتبته ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية