الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              1290 [ 646 ] وعن علي بن أبي طالب ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال : وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له ، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين ، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت ، أنت ربي وأنا عبدك ، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي ; فاغفر لي ذنوبي جميعا ، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، واهدني لأحسن الأخلاق ، لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت ، لبيك وسعديك ، والخير كله في يديك ، والشر ليس إليك ، أنا بك وإليك ، تباركت وتعاليت ، أستغفرك وأتوب إليك !! وإذا ركع قال : اللهم لك ركعت ، وبك آمنت ، ولك أسلمت ، خشع لك سمعي وبصري ، ومخي وعظمي وعصبي . وإذا رفع قال : اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات الأرض ، وما بينهما ، وملء ما شئت من شيء بعد . وإذا سجد قال : اللهم لك سجدت ، وبك آمنت ، ولك أسلمت ، سجد وجهي للذي خلقه وصوره ، وشق سمعه وبصره ، تبارك الله أحسن الخالقين . ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم : اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت ، وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت .

                                                                                              وفي رواية قال : كان إذا استفتح الصلاة كبر ، ثم قال : وجهت وجهي . وقال : وأنا أول المسلمين . وقال : وإذا رفع رأسه من الركوع قال : سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد . وقال : وصوره فأحسن صوره . وقال : إذا سلم قال : اللهم اغفر لي ما قدمت . . . إلى آخر الحديث .

                                                                                              رواه أحمد (1 \ 102)، ومسلم (771)، وأبو داود (761)، والترمذي (3423) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              وقوله : وجهت وجهي ; أي : صوبت وجهي ، وأخلصت في عبادتي . وحنيفا ; أي : مائلا عن جميع المعبودات سوى الله تعالى . ونسكي ; أي : ما أتنسك به من القرب والعبادات . والمحيا والممات ; أي : الحياة والموت ، كما قال للأنصار : المحيا محياكم ، والممات مماتكم . والعالمين : [ ص: 401 ] الخلق . وأصله من العلم ، وقيل : من العلامة . وأنا من المسلمين ; أي : مسلم من المسلمين المتمكنين في الاستسلام ، الذين سلموا أنفسهم للنيران ، وأموالهم للضيفان ، وولدهم للقربان ، وفوضوا جميع أمورهم للرحمن . وفي التلاوة : وأنا أول المسلمين [ الأنعام : 163 ] ; أي : أول سابق بالنسبة إلى زمانه .

                                                                                              وقوله : واهدني لأحسن الأخلاق ; أي : لأكملها وأفضلها ; وهي : الخلق الصحيح ، والكف عن القبيح . وقيل : للقيام بالحقوق ، والعفو عن العقوق ; كما قال : أن تعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك . وقد أجاب الله تعالى دعاء نبيه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ، فجمع له منها ما تفرق في العالمين ; حتى قال له تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم [ القلم :163 ] ولبيك : معناه : إجابة لك بعد إجابة . وسعديك ; أي : مساعدة بعد مساعدة ، وهما من المصادر التي لا تستعمل إلا مضافة مثناة ، وقد تقدم القول في : بيدك الخير .

                                                                                              وقوله : والشر ليس إليك ; أي : لا يضاف إليك مخاطبة ونسبة ، تأدبا ، مع أنه بقضاء الله تعالى وقدره ، وخلقه واختراعه ; كالخير ، كما قال الله تعالى : [ ص: 402 ] قل كل من عند الله [ النساء : 78 ] وكما قال : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير [ الأنعام : 17 ]

                                                                                              وقوله : خشع لك سمعي ، وبصري ، ومخي ، وعظمي وعصبي ; أي : أخذ كل عضو من هذه الأعضاء حظه من الخضوع والتذلل ; أي : سكنت وافتقرت ، وإن كان أصل الخشوع في القلب ; لكن ثمرته تظهر على الجوارح والأعضاء ، فسمي بذلك : خشوعا ، كما قال تعالى : ترى الأرض خاشعة [ فصلت : 39 ] ; أي : متذللة ، مفتقرة لما تحيا به من الماء ، أو يكون هذا على الإغياء والتشبيه ، كما قال :


                                                                                              لا عضو لي إلا وفيه محبة فكأن أعضائي خلقن قلوبا



                                                                                              وهذا هو النور الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس المتقدم . وقد تقدم القول في : ملء السماوات والأرض ، في الطهارة .

                                                                                              وقوله : وملء ما شئت من شيء بعد : يحتمل أن يكون معناه : من شيء يمكن أن يخلقه ; يكون أكبر من السماوات والأرض ، ويحتمل أن يراد به العرش والكرسي ، ففي الحديث : إن السماوات والأرض في الكرسي كالحلقة الملقاة في فلاة من الأرض ، والكرسي وما فيه في العرش كحلقة ملقاة في فلاة . والله تعالى أعلم . ومقصود هذا الحديث : الإغياء في تكثير الحمد والثناء .

                                                                                              [ ص: 403 ] و" بعد " ظرف مبني على الضم ; لأنه قطع عن المضاف إليه ، مع أنه مراد ، ومعناه هنا : بعد السماوات والأرض المذكورة قبل .

                                                                                              وقوله : وشق سمعه وبصره ; أي : خلق فيه السمع والبصر . وقد يحتج بإضافة السمع إلى الوجه من يقول : إن الأذنين من الوجه فيغسلان بغسله ، ولا حجة فيه ; لأنه يعارضه قوله - صلى الله عليه وسلم - : فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه . فجعل الأذن غاية للرأس ، فهي منه ; لأنا نقول بموجب ذلك ، ونفرق بين السمع والأذن ; فإن السمع الإدراك الذي في الأذن لا الأذن ; ولأن الوجه لا يتضمن الأذنين كما تقدم .

                                                                                              وقوله : أنت المقدم وأنت المؤخر ; أي : تقدم من تشاء فتجعلهم أنبياء وأولياء ، وعلماء ، وفضلاء ، وتؤخر من شئت فتجعله فرعون ، وأبا جهل . أو تملك الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء ، وعلى الجملة فكل تقديم وتأخير منه .

                                                                                              وقوله : كان إذا استفتح الصلاة كبر ثم قال : وجهت وجهي : أخذ به [ ص: 404 ] الشافعي ، وأن هذا التوجيه سنة راتبة في صلاة الفرض بعد التكبير ، ولا حجة له فيه ; لأن هذا يحتمل أنه كان في صلاة الليل فقط ، وتكون الصلاة يراد بها صلاة الليل فقط ، ولئن سلمنا أنه للعموم لزم منه أن يكون الدعاء المذكور في هذا الحديث في الركوع والسجود سنة راتبة في كل صلاة ، ولا قائل به ; فإن مساق الحديث واحد ، فلم يفرق بين التوجيه وغيره من الأدعية والأذكار . ولئن سلمنا الفرق فعندنا ما يعارض ذلك ، وهو أمران :

                                                                                              أحدهما : أنه قال في الرواية الأولى : إنه كان إذا قام إلى الصلاة قال : وجهت وجهي ، ولم يذكر التكبير ، وظاهره إذا أراد القيام ، فيكون قبل التكبير .

                                                                                              وثانيهما : أنه لو كان ذلك سنة راتبة لنقله أهل المدينة بالعمل ; إذ مثل ذلك لا يخفى عليهم مع شدة بحثهم عن أفعاله وأحواله ، وخصوصا في الصلاة الكثيرة التكرار ، العظيمة الموقع ، فلما كان ذلك علمنا : أنه ليس بسنة راتبة ، ولا يمنع من قاله كسائر الأذكار والأدعية . وقد روى الدارقطني في حديث علي المتقدم : أن ذلك كان في المكتوبة ، فإن صح ذلك كان دليلا على جواز وقوع ذلك في الصلاة المكتوبة ، إذ لم يضر بمن خلفه بطول القيام ; لا أنه سنة راتبة ; لما تقدم ، والله أعلم .




                                                                                              الخدمات العلمية