الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : المقصود من الآية أن الإنسان يجيء وحده ، ولا يكون معه شيء مما حصله في الدنيا ، قال تعالى : ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم ) [ الأنعام : 94 ] وقال : ( ونرثه ما يقول ويأتينا فردا ) [ مريم : 80 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( لا بيع فيه ) ففيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن البيع ههنا بمعنى الفدية ، كما قال : ( فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ) [ الحديد : 15 ] ، وقال : ( ولا يقبل منها عدل ) [ البقرة : 123 ] وقال : ( وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها ) [ الأنعام : 70 ] فكأنه قال : من قبل أن يأتي يوم لا تجارة فيه فتكتسب ما تفتدي به من العذاب .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن يكون المعنى : قدموا لأنفسكم من المال الذي هو في ملككم قبل أن يأتي اليوم الذي لا يكون فيه تجارة ولا مبايعة حتى يكتسب شيء من المال .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( ولا خلة ) فالمراد المودة ، ونظيره من الآيات قوله تعالى : ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) [ الزخرف : 67 ] ، وقال : ( وتقطعت بهم الأسباب ) [ البقرة : 166 ] وقال : ( ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ) [ العنكبوت : 25 ] ، وقال حكاية عن الكفار : ( فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ) [ الشعراء : 100 - 101 ] ، وقال : ( وما للظالمين من أنصار ) [ البقرة : 270 ] ، وأما قوله : ( ولا شفاعة ) يقتضي نفي كل الشفاعات .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن قوله : ( ولا خلة ولا شفاعة ) عام في الكل ، إلا أن سائر الدلائل دلت على ثبوت المودة والمحبة بين المؤمنين ، وعلى ثبوت الشفاعة للمؤمنين ، وقد بيناه في تفسير قوله تعالى : ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ) [ البقرة : 281 ] ( لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ) [ البقرة : 48 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن السبب في عدم الخلة والشفاعة يوم القيامة أمور :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن كل أحد يكون مشغولا بنفسه ، على ما قال تعالى : ( لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ) [ عبس : 37 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن الخوف الشديد غالب على كل أحد ، على ما قال : ( يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ) [ الحج : 2 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أنه إذا نزل العذاب بسبب الكفر والفسق صار مبغضا لهذين الأمرين ، وإذا صار مبغضا لهما صار مبغضا لمن كان موصوفا بهما .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( والكافرون هم الظالمون ) فنقل عن عطاء بن يسار أنه كان يقول : الحمد لله الذي قال : ( والكافرون هم الظالمون ) ولم يقل : الظالمون هم الكافرون ، ثم ذكروا في تأويل هذه الآية وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه تعالى لما قال : ( ولا خلة ولا شفاعة ) أوهم ذلك نفي الخلة والشفاعة مطلقا ، فذكر تعالى عقيبه : ( والكافرون هم الظالمون ) ليدل على أن ذلك النفي مختص بالكافرين ، وعلى هذا التقدير تصير الآية دالة [ ص: 176 ] على إثبات الشفاعة في حق الفساق ، قال القاضي : هذا التأويل غير صحيح ؛ لأن قوله : ( والكافرون هم الظالمون ) كلام مبتدأ فلم يجب تعليقه بما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أنا لو جعلنا هذا الكلام مبتدأ تطرق الخلف إلى كلام الله تعالى ، لأن غير الكافرين قد يكون ظالما ، أما إذا علقناه بما تقدم زال الإشكال فوجب المصير إلى تعليقه بما قبله .

                                                                                                                                                                                                                                            التأويل الثاني : أن الكافرين إذا دخلوا النار عجزوا عن التخلص عن ذلك العذاب ، فالله تعالى لم يظلمهم بذلك العذاب ، بل هم الذين ظلموا أنفسهم حيث اختاروا الكفر والفسق حتى صاروا مستحقين لهذا العذاب ، ونظيره قوله تعالى : ( ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ) [ الكهف : 49 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            والتأويل الثالث : أن الكافرين هم الظالمون حيث تركوا تقديم الخيرات ليوم فاقتهم وحاجتهم ، وأنتم أيها الحاضرون لا تقتدوا بهم في هذا الاختيار الرديء ، ولكن قدموا لأنفسكم ما تجعلونه يوم القيامة فدية لأنفسكم من عذاب الله .

                                                                                                                                                                                                                                            والتأويل الرابع : الكافرون هم الظالمون لأنفسهم بوضع الأمور في غير مواضعها ، لتوقعهم الشفاعة ممن لا يشفع لهم عند الله ، فإنهم كانوا يقولون في الأوثان : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، وقالوا أيضا : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى فمن عبد جمادا وتوقع أن يكون شفيعا له عند الله فقد ظلم نفسه حيث توقع الخير ممن لا يجوز التوقع منه .

                                                                                                                                                                                                                                            والتأويل الخامس : المراد من الظلم ترك الإنفاق ، قال تعالى : ( آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا ) [ الكهف : 33 ] أي : أعطت ولم تمنع ، فيكون معنى الآية : والكافرون التاركون للإنفاق في سبيل الله ، وأما المسلم فلا بد وأن ينفق منه شيئا قل أو كثر .

                                                                                                                                                                                                                                            والتأويل السادس : ( والكافرون هم الظالمون ) أي : هم الكاملون في الظلم البالغون المبلغ العظيم فيه كما يقال : العلماء هم المتكلمون أي هم الكاملون في العلم ، فكذا ههنا ، وأكثر هذه الوجوه قد ذكرها القفال رحمه الله . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية