الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : اعلم أن تفسير لفظة " الله " قد تقدم في أول الكتاب ، وتفسير قوله : ( لا إله إلا هو ) قد تقدم في قوله : ( وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو ) [البقرة : 163] بقي ههنا أن نتكلم في تفسير قوله : ( الحي القيوم ) وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يقول : أعظم أسماء الله ( الحي القيوم ) وما روينا أنه صلوات الله وسلامه عليه ما كان يزيد على ذكره في السجود يوم بدر يدل على عظمة هذا الاسم ، والبراهين العقلية دالة على صحته . وتقريره -ومن الله التوفيق- : أنه لا شك في وجود الموجودات فهي إما أن تكون بأسرها ممكنة ، وإما أن تكون بأسرها واجبة ، وإما أن تكون بعضها ممكنة وبعضها واجبة لا جائز أن تكون بأسرها ممكنة ؛ لأن كل مجموع فهو مفتقر إلى كل واحد من أجزائه ، وكل واحد من أجزاء هذا المجموع ممكن ، والمفتقر إلى الممكن أولى بالإمكان ، فهذا المجموع ممكن بذاته، وكل واحد من أجزائه ممكن فإنه لا يترجح وجوده على عدمه إلا لمرجح مغاير له ، فهذا المجموع مفتقر بحسب كونه مجموعا وبحسب كل واحد من أجزائه إلى مرجح مغاير له ، وكل ما كان مغايرا لكل الممكنات لم يكن ممكنا فقد وجد موجود ليس بممكن ، فبطل القول بأن كل موجود ممكن .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القسم الثاني وهو أن يقال : الموجودات بأسرها واجبة فهذا أيضا باطل ؛ لأنه لو حصل وجودان كل واحد منهما واجب لذاته لكانا مشتركين في الوجوب بالذات ومتغايرين بالنفي ، وما به المشاركة مغاير لما به الممايزة ، فيكون كل واحد منهما مركبا في الوجوب الذي به المشاركة ، ومن الغير الذي به الممايزة ، وكل مركب فهو مفتقر إلى كل واحد من جزئه وجزء غيره ، وكل مركب فهو مفتقر إلى غيره ، وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته ، فلو كان واجب الوجود أكثر من واحد لما كان شيء منها واجب الوجود ، وذلك محال ، ولما بطل هذان القسمان ثبت أنه حصل في مجموع الموجودات موجود واحد واجب الوجود لذاته ، وأن كل ما عداه فهو ممكن لذاته موجود بإيجاد ذلك الموجود الذي هو واجب الوجود لذاته ، ولما بطل هذان فالواجب لذاته موجود لذاته وبذاته ، ومستغن في وجوده عن كل ما سواه ، وأما كل ما سواه فمفتقر في وجوده وماهيته إلى إيجاد الواجب لذاته ، فالواجب لذاته قائم بذاته ، وسبب لتقوم كل ما سواه في ماهيته وفي وجوده ، فهو القيوم الحي بالنسبة إلى كل الموجودات ، فالقيوم هو المتقوم بذاته ، المقوم لكل ما عداه في ماهيته ووجوده ، ولما كان واجب الوجود لذاته كان هو القيوم الحق بالنسبة إلى الكل ، ثم إنه لما كان المؤثر في الغير إما أن يكون مؤثرا على سبيل العلية والإيجاب ، وإما أن يكون مؤثرا على سبيل الفعل والاختيار ، لا جرم أزال وهم كونه مؤثرا بالعلية والإيجاب بقوله : ( الحي القيوم ) فإن الحي هو الدراك [ ص: 5 ] الفعال ، فبقوله : ( الحي ) دل على كونه عالما قادرا ، وبقوله : ( القيوم ) دل على كونه قائما بذاته ومقوما لكل ما عداه ، ومن هذين الأصلين تتشعب جميع المسائل المعتبرة في علم التوحيد .

                                                                                                                                                                                                                                            فأولها : أن واجب الوجود واحد بمعنى أن ماهيته غير مركبة من الأجزاء . وبرهانه أن كل مركب فإنه مفتقر في تحققه إلى تحقق كل واحد من أجزائه ، وجزؤه غيره ، وكل مركب فهو متقوم بغيره ، والمتقوم بغيره لا يكون متقوما بذاته ، فلا يكون قيوما ، وقد بينا بالبرهان أنه قيوم ، وإذا ثبت أنه تعالى في ذاته واحد ، فهذا الأصل له لازمان : أحدهما : أن واجب الوجود واحد ، بمعنى أنه ليس في الوجود شيئان كل واحد منهما واجب لذاته ، إذ لو فرض ذلك لاشتركا في الوجوب وتباينا في التعين ، وما به المشاركة غير ما به المباينة ، فيلزم كون كل واحد منهما في ذاته مركبا من جزأين ، وقد بينا بيان أنه محال .

                                                                                                                                                                                                                                            اللازم الثاني : أنه لما امتنع في حقيقته أن تكون مركبة من جزأين امتنع كونه متحيزا ؛ لأن كل متحيز فهو منقسم ، وقد ثبت أن التركيب عليه ممتنع ، وإذا ثبت أنه ليس بمتحيز امتنع كونه في الجهة ؛ لأنه لا معنى للمتحيز إلا ما يمكن أن يشار إليه إشارة حسية ، وإذا ثبت أنه ليس بمتحيز وليس في الجهة ، امتنع أن يكون له أعضاء وحركة وسكون .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه لما كان قيوما كان قائما بذاته ، وكونه قائما بذاته يستلزم أمورا :

                                                                                                                                                                                                                                            اللازم الأول : أن لا يكون عرضا في موضوع ، ولا صورة في مادة ، ولا حالا في محل أصلا ؛ لأن الحال مفتقر إلى المحل ، والمفتقر إلى الغير لا يكون قيوما بذاته .

                                                                                                                                                                                                                                            واللازم الثاني : قال بعض العلماء : لا معنى للعلم إلا حضور حقيقة المعلوم للعالم ، فإذا كان قيوما بمعنى كونه قائما بنفسه لا بغيره كانت حقيقته حاضرة عند ذاته ، وإذا كان لا معنى للعلم إلا هذا الحضور ، وجب أن تكون حقيقته معلومة لذاته فإذن ذاته معلومة لذاته ، وكل ما عداه فإنه إنما يحصل بتأثيره ، ولأنا بينا أنه قيوم بمعنى كونه مقوما لغيره ، وذلك التأثير إن كان بالاختيار فالفاعل المختار لا بد وأن يكون له شعور بفعله ، وإن كان بالإيجاب لزم أيضا كونه عالما بكل ما سواه ؛ لأن ذاته موجبة لكل ما سواه ، وقد دللنا على أنه يلزم من كونه قائما بالنفس لذاته كونه عالما بذاته ، والعلم بالعلة علة للعلم بالمعلول ، فعلى التقديرات كلها يلزم من كونه قيوما كونه عالما بجميع المعلومات .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : لما كان قيوما لكل ما سواه كان كل ما سواه محدثا ؛ لأن تأثيره في تقويم ذلك الغير يمتنع أن يكون حال بقاء ذلك الغير ؛ لأن تحصيل الحاصل محال ، فهو إما حال عدمه وإما حال حدوثه ، وعلى التقديرين وجب أن يكون الكل محدثا .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أنه لما كان قيوما لكل الممكنات استندت كل الممكنات إليه إما بواسطة أو بغير واسطة ، وعلى التقديرين كان القول بالقضاء والقدر حقا ، وهذا مما قد فصلناه وأوضحناه في هذا الكتاب في آيات كثيرة ، فأنت إن ساعدك التوفيق وتأملت في هذه المعاقد التي ذكرناها علمت أنه لا سبيل إلى الإحاطة بشيء من المسائل المتعلقة بالعلم الإلهي إلا بواسطة كونه تعالى حيا قيوما ، فلا جرم لا يبعد أن يكون الاسم الأعظم هو هذا ، وأما سائر الآيات الإلهية ، كقوله : ( وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو ) [البقرة : 163] وقوله ( شهد الله أنه ) [ ص: 6 ] ( لا إله إلا هو ) [آل عمران : 18] ففيه بيان التوحيد بمعنى نفي الضد والند ، وأما قوله ( قل هو الله أحد ) ففيه بيان التوحيد بمعنى نفي الضد والند ، وبمعنى أن حقيقته غير مركبة من الأجزاء ، وأما قوله ( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض ) [الأعراف : 54] ففيه بيان صفة الربوبية وليس فيه بيان وحدة الحقيقة ، أما قوله ( الحي القيوم ) فإنه يدل على الكل ؛ لأن كونه قيوما يقتضي أن يكون قائما بذاته ، وأن يكون مقوما لغيره ، وكونه قائما بذاته يقتضي الوحدة بمعنى نفي الكثرة في حقيقته ، وذلك يقتضي الوحدة بمعنى نفي الضد والند ، ويقتضي نفي التحيز ، وبواسطته يقتضي نفي الجهة . وأيضا كونه قيوما بمعنى كونه مقوما لغيره يقتضي حدوث كل ما سواه جسما كان أو روحا عقلا كان أو نفسا ، ويقتضي استناد الكل إليه وانتهاء جملة الأسباب والمسببات إليه ، وذلك يوجب القول بالقضاء والقدر ، فظهر أن هذين اللفظين كالمحيطين بجميع مباحث العلم الإلهي ، فلا جرم بلغت هذه الآية في الشرف إلى المقصد الأقصى ، واستوجب أن يكون هو الاسم الأعظم من أسماء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم إنه تعالى لما بين أنه حي قيوم أكد ذلك بقوله ( لا تأخذه سنة ولا نوم له ) والمعنى : أنه لا يغفل عن تدبير الخلق ، لأن القيم بأمر الطفل لو غفل عنه ساعة لاختل أمر الطفل ، فهو سبحانه قيم جميع المحدثات ، وقيوم الممكنات ، فلا يمكن أن يغفل عن تدبيرهم ، فقوله : ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) كالتأكيد لبيان كونه تعالى قائما ، وهو كما يقال لمن ضيع وأهمل : إنك لوسنان نائم ، ثم إنه تعالى لما بين كونه قيوما بمعنى كونه قائما بذاته ، مقوما لغيره ، رتب عليه حكما وهو قوله : ( له ما في السماوات وما في الأرض ) لأنه لما كان كل ما سواه إنما تقومت ماهيته ، وإنما يحصل وجوده بتقويمه وتكوينه وتخليقه ، لزم أن يكون كل ما سواه ملكا له وملكا له ، وهو المراد من قوله : ( له ما في السماوات وما في الأرض ) ثم لما ثبت أنه هو الملك والمالك لكل ما سواه ، ثبت أن حكمه في الكل جار ليس لغيره في شيء من الأشياء حكم إلا بإذنه وأمره ، وهو المراد بقوله : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) ثم لما بين أنه يلزم من كونه مالكا للكل ، أن لا يكون لغيره في ملكه تصرف بوجه من الوجوه ، بين أيضا أنه يلزم من كونه عالما بالكل وكون غيره غير عالم بالكل ، أن لا يكون لغيره في ملكه تصرف بوجه من الوجوه إلا بإذنه ، وهو قوله : ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ) وهو إشارة إلى كونه سبحانه عالما بالكل ، ثم قال : ( ولا يحيطون بشيء من علمه ) وهو إشارة إلى كون غيره غير عالم بجميع المعلومات ، ثم إنه لما بين كمال ملكه وحكمه في السماوات وفي الأرض ، بين أن ملكه فيما وراء السماوات والأرض أعظم وأجل ، وأن ذلك مما لا تصل إليه أوهام المتوهمين وينقطع دون الارتقاء إلى أدنى درجة من درجاتها تخيلات المتخيلين ، فقال : ( وسع كرسيه السماوات والأرض ) ثم بين أن نفاذ حكمه وملكه في الكل على نعت واحد ، وصورة واحدة ، فقال : ( ولا يئوده حفظهما ) ثم لما بين كونه قيوما بمعنى كونه مقوما للمحدثات والممكنات والمخلوقات ، بين كونه قيوما بمعنى قائما بنفسه وذاته ، منزها عن الاحتياج إلى غيره في أمر من الأمور ، فتعالى عن أن يكون متحيزا حتى يحتاج إلى مكان ، أو متغيرا حتى يحتاج إلى زمان ، فقال : ( وهو العلي العظيم ) فالمراد منه العلو والعظمة ، بمعنى أنه لا يحتاج إلى غيره في أمر من الأمور ، ولا ينسب إلى غيره في صفة من الصفات ولا في نعت من النعوت ، فقال : ( وهو العلي العظيم ) إشارة إلى ما بدأ به في الآية من كونه قيوما بمعنى كونه قائما بذاته مقوما لغيره . ومن أحاط عقله بما ذكرنا علم أنه ليس عند العقول البشرية من الأمور الإلهية كلام أكمل ولا برهان أوضح مما اشتملت عليه هذه الآيات .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية