الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا عيسى بن أحمد ) ثقة أخرج حديثه الترمذي والنسائي ، ( حدثنا عبد الله بن وهب ) تقدم ( قال حدثني مالك بن أنس عن ابن شهاب ) وهو الزهري ( عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح ) أي سنة ثمان من الهجرة ( وعلى رأسه المغفر ) بلام التعريف في جميع النسخ المصححة والأصول المعتمدة .

وأما قول العصام وفي بعض الأصول " مغفر " فالله أعلم بصحته ، ثم الجمع بينه وبين الحديث الآتي أنه كان على رأسه عمامة سوداء - المخرج في مسلم - أن عقب دخوله نزع المغفر ، ثم لبس العمامة السوداء ، فخطب بها لرواية : " خطب الناس وعليه عمامة سوداء " أخرجه مسلم . والخطبة كانت عند باب الكعبة بعد تمام الفتح ، وهذا الجمع للقاضي عياض ، واختاره العراقي وفيه أن ظاهر الحديث يدل على أن العمامة كانت على رأسه حين دخوله مكة ، لا أنه لبسها بعد ذلك ; لأن زمان الحال يجب أن يكون متحدا مع زمان عامله ، اللهم إلا أن يقصد الاتساع في زمان دخول مكة والله أعلم .

وقيل : إن سواد عمامته لم يكن أصليا بل لما كان المغفر [ ص: 202 ] فوق العمامة في الأيام الحارة ، وكانت العمامة متسخة ومتلونة بسببه ، ولما رفع المغفر عنها ظن الراوي أنها سوداء ، ويدل عليه رواية دخل مكة وعليه عصابة دسماء ، وهذا أظهر في الجمع من الجميع ، والله أعلم .

وأما قول ابن حجر من اقتصر على المغفر بين أنه دخل متأهبا للقتال ، ومن اقتصر على العمامة بين أنه دخل غير محرم فجمع غريب من وجهين أحدهما : أن لبس أحدهما لا يدل على عدم إحرامه ; لأن الإحرام بالنية واللبس جائز للضرورة ، والثاني أن لبس المغفر يكفي للدلالتين على زعمه ، فلا يحتاج إلى ذكر العمامة على أنا نقول بفرض صحة عدم إحرامه ، أن سببه كونه صلى الله عليه وسلم مترددا بين حصول تمكنه من الدخول في أرض الحرم ، وبين عدم الدخول إليه بسبب منع الأعداء ، فكان قصده الأول إنما هو قرب الحرم ; لينظر فيه كيف الأمر أله الغلبة أم لا ، فحينئذ جاوز الميقات بغير إحرام ثم دخل مكة بغير نسك على ما هو مقتضى مذهبنا من الأفاقي ، إذا قصد بستان بني عامر له المجاوزة من الميقات بغير إحرام ثم دخوله مكة باختياره محرما أو غير محرم ، قال ميرك : وزعم بعض أهل السير أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم مغفران يقال لأحدهما الموشح ، وللآخر لسوع ، وقال بعضهم : كان له بيضة ، وكان في رأسه يوم أحد ، واعلم أن ابن بطال ذكر أن بعضهم أنكروا على مالك قوله وعليه مغفر ، وأنه تفرد به والمحفوظ في سائر الطرق أنه دخل مكة وعليه عمامة سوداء ، وتعقب بأن العلماء وجدوا بضعة عشر نفرا غير مالك تابعوه في ذكر المغفر ، وتقدم الجمع بينهما ( قال ) أي أنس ، وإنما قال الزهري : قال لطول كلامه أو لأنه سمعه في وقت آخر منه ، وأما قول ابن حجر : فاعل قال هو ابن شهاب ، كما هو ظاهر السياق لا الترمذي حتى يحكم على الحديث بأنه معلق ، فمدفوع بأن السياق المطابق للسياق أنه من كلام أنس ، مع أنه إذا كان من كلام ابن شهاب يحكم على الحديث بأنه مرسل ( فلما نزعه ) أي نزع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغفر ونحاه عن رأسه ( جاءه رجل ) قيل : هو أبو برزة الأسلمي ( فقال ) أي الرجل ( ابن خطل متعلق بأستار الكعبة ) مبتدأ وخبر ( فقال ) أي النبي صلى الله عليه وسلم ( اقتلوه ) أي أنت وأصحابك ففيه نوع من التغليب أو الالتفات ، ويؤيد الأول رواية : " اقتله " ( قال ابن شهاب ) أي الزهري قال ميرك : هو موصول بالإسناد المتقدم ، وليس بمعلق لما وقع في الموطأ من رواية أبي مصعب وغيره ، قال مالك : قال ابن شهاب : ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ محرما ( وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يومئذ محرما ) أي على صورة المحرم ; لأنه كان لابسا لبس الحلال ، والله أعلم بالحال . وقد خالف الحنفي مذهبه حيث قال : فيه دليل على جواز دخولها إذا لم يرد نسكا انتهى . قال ميرك : أخرجه البخاري من طريق يحيى بن قزعة عن مالك بهذا الإسناد ، ولفظه : " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح " الحديث ، وقال : اقتله ، وقال في آخره : قال مالك : ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فيما نرى والله أعلم محرما ، وأخرجه البخاري أيضا من طريق عبد الله بن يوسف عن مالك ، وقال : اقتلوه بصيغة الجمع كما هنا انتهى . والجمع أنه قال له اقتله [ ص: 203 ] ولما علم أن قتله وحده صعب ، قال اقتلوه ; ولهذا تبادروا إلى قتله ، ثم في قول مالك ، ولم يكن فيما نرى محرما دليل على أن هذا القول بمقتضى ظنه لأمر خارج من غير أن يكون مستدلا بلبس المغفر ، كما سبق تحقيقه وعليه يحمل قول جابر في رواية مسلم ، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ، وعليه عمامة سوداء بغير إحرام .

ثم اعلم أن دخول الحرم في حق غير الخائف المتأهب للقتال بغير إحرام لا يجوز عندنا ، وعليه الجمهور خلافا للشافعية على الأصح عندهم ، وقيل : الإحرام واجب إن لم تتكرر حاجته ، ونقل عن أكثر العلماء ، قال ميرك : وقد اختلف العلماء في من دخل مكة بغير قصد حج أو عمرة ، هل يجب عليه الإحرام ، فالمشهور من مذهب الشافعي عدم الوجوب مطلقا أي سواء دخل لحاجة تتكرر كحطاب وخشاش وصياد ونحوهم ، أو لا تتكرر كتجارة وزيارة ونحوهما ، وهو الصحيح وفي قول ضعيف تجب مطلقا ، والمشهور عن الأئمة الثلاثة الوجوب ، وفي رواية عن كل منهم لا يجب ، وهو قول ابن عمر والزهري ، والحسن وأهل الظاهر ، وجزم الحنابلة باستثناء ذوي الحاجات المتكررة ، واستثنى الحنفية من كان داخل الميقات ، وقال ابن عبد البر : إن أكثر الصحابة والتابعين على القول بالوجوب ، وأما قول الطحاوي : إن دخوله صلى الله عليه وسلم مكة غير محرم من خصائصه ، ودليله : قوله صلى الله عليه وسلم أنها لم تحل لي إلا ساعة من نهار ، وأن المراد بذلك جواز دخولها بغير إحرام لا تحريم القتال فيها ; لأنهم أجمعوا على أن المشركين لو غلبوا والعياذ بالله تعالى على مكة حل للمسلمين القتال معهم فيها ، فقد عكس استدلاله النووي ، فقال : في الحديث دلالة على أن مكة تبقى دار إسلام إلى يوم القيامة ، فبطل ما صوره الطحاوي على أن في دعوى الإجماع نظرا ، فإن الخلاف ثابت وقد حكاه القفال والماوردي وغيرهما قلت : ما صوره الطحاوي فرضي غير لازم الوقوع ; ولذا خالف من خالف ، وأما دعوى الإجماع فصحيحة ، ولا ينافيها مخالفة القفال وغيره ، فبطل إبطاله والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية