الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل ( قبول الهدية إذا لم تكن على عمل البر ) .

قال أبو الحارث : إن أبا عبد الله سئل عن الرجل يسأله الرجل الحاجة فيسعى معه فيها فيكافئه على ذلك بلطفه يهدي له ترى له أن يقبلها ؟ قال إن كان شيء من البر وطلب الثواب كرهت له ذلك ، فهذا النص إنما فيه الكراهة لمن طلب البر والثواب ، وظاهره يجوز لغيره ، ونظيره قول أصحابنا في المعلم إن أعطي شيئا بلا شرط جاز ، وإنه ظاهر كلام أحمد ، وكرهه بعض العلماء لحديث القوسين .

قال في المغني : يحتمل أنه قصد القربة فكرهه له أو غير ذلك ، وقال صالح ولد لي مولود فأهدى إلي صديق لي شيئا ، فمكثت على ذلك أشهرا ، وأراد الخروج إلى البصرة فقال لي : كلم لي أبا عبد الله يكتب لي إلى المشايخ بالبصرة فكلمته ، فقال : لولا أنه أهدى إليك كتبت فلست أكتب له .

وقال صالح قلت لأبي : رجل [ ص: 299 ] أودع رجلا وديعة فسلمها إلى الذي أودعه فأهدى إليه شيئا يقبله أم لا ؟ فقال أبي : إذا علم أنه إنما أهدى إليه لأداء أمانته فلا يقبل الهدية إلا أن يكافئ بمثلها ، وهذا موافق لرواية أبي الحارث السابقة .

وقال يعقوب قال أبو عبد الله لا ينبغي للخاطب إذا خطب لقوم أن يقبل لهم هدية . وظاهر الرواية التحريم مطلقا أو الكراهة ، واختار التحريم الشيخ تقي الدين بن تيمية في كل شفاعة فيها إعانة على فعل واجب أو ترك محرم وفي شفاعة عند ولي أمر ليوليه ولاية أو يستخدمه في المقاتلة ، وهو مستحق لذلك أو ليعطيه من الموقوف على الفقراء ، أو القراء والفقهاء ، أو غيرهم ، وهو من أهل الاستحقاق ونحو ذلك وقال هذا هو المنقول عن السلف والأئمة الكبار ، وقد رخص بعض الفقهاء المتأخرين في ذلك وجعل هذا من باب الجعالة يعني من الشافعية قال : وهذا مع مخالفته للسنة وأقوال الصحابة والأئمة فهو غلط لأن مثل هذا من المصالح العامة التي القيام بها فرض عين أو كفاية ، فيلزم من أخذ الجعل فيه ترك الأحق ، والمنفعة ليست للباذل بل للناس ، وطلب الولاية منهي عنه فكيف ؟ بالعوض فهذا من باب الفساد . انتهى كلامه .

وهذا المعنى الذي احتج به خاص ، ويتوجه لأجله قول ثالث وهو معنى كلام ابن الجوزي الآتي ، وأما الخبر الذي احتج به فقال أبو داود في سننه : باب الهدية للحاجة ثم روى عن أبي أمامة مرفوعا : { من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا } من رواية القاسم بن عبد الرحمن وقد وثقه ابن معين والعجلي ويعقوب بن شيبة والنسوي والترمذي وقال أبو حاتم لا بأس به وقال الجوزجاني كان خيرا فاضلا وتكلم فيه أحمد وابن حبان ، وقال ابن حراش ضعيف جدا وقال ابن الجوزي ضعيف بمرة واحدة .

ورواه أحمد من [ ص: 300 ] رواية ابن لهيعة وضعفه مشهور ، وفي صحته نظر ، وكيف يكون هذا بابا عظيما من الربا ثم يحمل على شفاعة متعينة لا سيما في ولاية ، أو على قصد القربة ، ولهذا رتب الهدية على الشفاعة .

ورأيت تعليقا على كلام القاضي على النسخة العتيقة لابن تيمية ، وعليها خط جماعة من أصحابنا منهم الحسن بن أحمد ابن البنا نسخه سنة سبع وعشرين وأربعمائة رأيت على المجلدة الأخيرة : لا يجوز أخذ العوض في مقابلة الدفع عن المظلوم . ثم ذكر رواية أبي الحارث السابقة وقال : فإذا كره ذلك فيما لا يجب عليه فعله فأولى أن يكره فيما يجب عليه من دفع المظالم ، ثم ذكر أن ابن بطة وصاحبه أبا حفص رويا خبر أبي أمامة ونحو ذلك .

وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : وبإسناده عن زاذان { أنه سمع عمر يقول لمسروق بن الأجدع : إياك والهدية في سبب الشفاعة فإن ذلك من السحت } ثم ذكر رواية يعقوب السابقة ، ثم قال : وذكر ابن حفص في كتاب الهبات باب كراهة الهدية على تعليم القرآن قال الأثرم لأبي عبد الله : الرجل يعطى عند المفصل قال : لا يعجبني . انتهى كلامه .

وتكلم أبو مسعود لرجل في حاجة فأهدى له هدية فأمر بإخراجها وقال : آخذ أجر شفاعتي في الدنيا ، رواه صالح عن أبيه إسماعيل عن ابن عوف عن محمد عنه .

وعن عبد الله بن جعفر في هذه المسألة أنه ردها وقال إنا أهل بيت لا نأخذ على معروفنا ثمنا . رواه صالح عن أبيه عن علي بن عاصم وقد ضعفه جماعة عن خالد الحذاء وهشام بن حسان عن محمد عنه . وقد كان إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق الزجاج صاحب التصانيف الحسان ومن أهل الفضل والعلم مع حسن الاعتقاد أدب القاسم بن عبيد الله فلما تولى القاسم الوزارة كان وظيفة أبي إسحاق عنده أنه يعرض عليه القصص ويقضي عنده الأشغال ويشارط على ذلك ، ويأخذ ما أمكنه وقصته مشهورة .

وقال أبو الفرج بن الجوزي في المنتظم بعد أن ترجم أبا إسحاق بهذه [ ص: 301 ] الترجمة ، وذكر قصته قال : رأيت كثيرا من أصحاب الحديث والعلم يقرءون هذه الحكاية ويتعجبون ، مستحسنين لهذا الفعل ، غافلين عما تحته من القبيح ، وذلك لأنه يجب على الولاة إيصال قصص المظلومين وأهل الحوائج ، فإقامة من يأخذ الأجعال على هذا القبيح حرام ، وهذا مما وهي به الزجاج وهيا عظيما ، ولا يرتفع لأنه إن كان يعلم ما في باطن ما قد حكاه عن نفسه فهذا جهل بمعرفة حكم الشرع ، وإن كان يعرف فحكايته في غاية القبح ، فنعوذ بالله من قلة الفقه ، انتهى كلامه . ولنا خلاف مشهور في أخذ الأجرة والجعالة على تحمل الشهادة وأدائها والتفرقة ، فغاية الشفاعة كذلك .

ونص أحمد رضي الله عنه على أن لو قال : اقترض لي مائة ولك عشرة . أنه يصح ، قال أصحابنا : لأنه جعالة على فعل مباح ، قالوا : يجوز للإمام أن يبذل جعلا لمن يدل على ما فيه مصلحة للمسلمين ، وأن المجعول له يستحق الجعل مسلما كان أو كافرا . وقاسوه على أجرة الدليل .

وأما ما يروى عن ابن مسعود وسئل عن السحت فقال : أن تشفع لأخيك شفاعة فيهدي لك هدية فتقبلها ، فقيل له : أرأيت إن كان هدية في باطل قال : ذلك كفر { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } . ففي صحته نظر ، والمعروف عنه : وإنما السحت أن يستعينك على مظلمة ، فيهدي لك فلا تقبل ثم يجاب عنه بما سبق ، والله سبحانه أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية