الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والله سبحانه بين أن ذلك يوم القيامة; لأنه في الدنيا قد خلق أسبابا تعلق بها كثير من الناس، وأشركوا بها خالقها، وأعرضوا عنه، واتخذوا عباده من دونه أولياء، ونازعه المستكبرون الربوبية والإلهية، ونازعوه العظمة والكبرياء، فوقع الاشتراك من الأتباع والمتبوعين.

فإذا كان يوم القيامة، ونادى: لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [غافر: 16]، لم يبق أحد يدعي ذلك، فهو مالك يوم الدين، الذي كان يكذب به [ ص: 155 ] الكافرون، حيث يقول: كلا بل تكذبون بالدين [الانفطار: 9].

والأمر يومئذ لله وحده، فلا أحد يظن أو يدعي أن له أمرا أو شركا في أمر، بل باتفاق الخلق كلهم أن ذلك كله لله، وإن كان في الدنيا ينازعونه ويشركون به.

والمستحق للحق إذا نازعه المبطلون، ثم سلموا له حقه، فهو في الموضعين قد كان حقه، لكن حق مسلم، أو حق ينازع فيه المبطل أو يدعيه لنفسه.

فأما شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وشفاعة غيره يوم القيامة، فهي بأمره وإذنه، وهي منه لا من الشافع، فلا يشفعون إلا بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى، فلا يتوكل العبد إلا على الله، ولا يعبد إلا إياه; فإنه الذي يسر له الشفعاء.

ولهذا لما سأل أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: «لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا أحد أول منك; لما رأيت من حرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله».

فقد أخبر أن أسعد الناس بشفاعته هم أهل التوحيد لله، الذي أخلصوا له الدين، الذين لم يتألهوا غيره. [ ص: 156 ]

فبين أن كل من كان بالأسباب أشد تعلقا ورجاء كان عن رحمة الله بشفاعة الشفعاء وغيرها أبعد، وكل من كان لله أعظم إخلاصا وعليه أشد توكلا كان أولى برحمة الله بشفاعة الشفعاء وغيرها; فإن الأسباب جميعها كالشفاعة ليست مستقلة موجبة، ومع هذا فالله خالقها وربها.

وأعظم الأسباب التي يرجو بها العبد رحمة الله: العمل الصالح، والدعاء، والشفاعة، ومع هذا فالثلاثة بمنزلة الأسباب التي ليست من فعل العباد، من جهة أنها من جملة مخلوقات الله ومصنوعاته وما سببه من الأسباب، ومن جهة أنها غير موجبة ولا مستقلة.

فلذلك وجب أن لا يتوكل العبد إلا على ربه، ولا يتخذ من دونه وليا ولا شفيعا.

قال الله تعالى: وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع [الأنعام: 51]، وقال: ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون [السجدة: 4].

فليس للعباد ولي يتولى أمورهم دونه، ولا شفيع يعينهم على أمورهم دونه.

ولهذا قال تعالى: أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض [الزمر: 43 – 44]، [ ص: 157 ] وقال تعالى: ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء [الأنعام: 94]، وقال: ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله [يونس: 18]، وقال تعالى: ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء [الروم: 12 – 13].

ومعلوم أن الخلق إنما دعوا غيره لرجاء المنفعة به، أو خوف الضرر في ترك ذلك، كما دعوا الشمس والقمر أو شيئا من الكواكب، أو دعوا الملائكة أو النبيين، أو دعوا غير ذلك من المخلوقات، كالفلك والسحاب والمطر وغير ذلك; فإن جميع المخلوقات عبدت من دون الله سبحانه وتعالى.

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية