الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وإن الله تعالى بين بعد ذلك مصارف الصدقات، ولم يتركها لنبيه، بل تولاها سبحانه وحده؛ لكيلا يتطاول بعض من بقلبه مرض من ضعف إيمان أو [ ص: 3343 ] نفاق أو من تتعلق نفوسهم بظواهر الأمور دون لبابها وغاياتها، فقال تعالت كلماته: إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم .

                                                          جاءت آية الصدقات بعدما جاء عن المنافقين في أحوال كثيرة، وأن منهم من عاب النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - في توزيع الصدقات، فجاءت الآية تبين أن التوزيع من الله سبحانه وتعالى، فلم يتركها لنبي ولا لغيره، تولاها هو سبحانه بالبيان فمن عاب التقسيم فإنما يعيب تقسيم الله تعالى، فليعلم مكانه في الإيمان.

                                                          روي عن زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيت النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فبايعته، فأتى رجل فقال: أعطني من الصدقة فقال له: "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات، حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك ".

                                                          فكانت هذه الآية ردا على هذا الفريق من المنافقين بأنهم يلمزون النبي - صلوات الله وسلامه عليه - إنما يتهجمون على مقام الألوهية، ولبيان أنهم إذ لم يأخذوا منها فلأنهم لم يدخلوا في صنف من هذه الأصناف الثمانية، ومن دخل في صنف منها فما منع، بل أخذ.

                                                          وقوله تعالى: إنما الصدقات للفقراء والمساكين (إنما) أداة قصر، أي أن الصدقات قد اختصت بها هذه الأصناف دون غيرهم، فليست لأحد غير هؤلاء من الأغنياء والأقوياء الذين يكسبون ما يكفيهم وأهلهم بالمعروف، ولذا قال عليه السلام: " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي ".

                                                          فالذين يلمزون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أغنياء أو أقوياء.

                                                          [ ص: 3344 ] قوله تعالى: للفقراء والمساكين لا تفرق اللغة بين الفقراء والمساكين في الجملة، فكلاهما لا مال له يكفيه وأهله بالمعروف، ولكنهما اجتمعا في هذه الآية على أنهما صنفان مختلفان، يتميز كل واحد منهما عن الآخر، وعن الاجتماع بين لفظين معناهما متقارب يخص كل واحد منهما بمعنى ينفرد به عن الآخر.

                                                          وقد اختلف الفقهاء في تعريف الفقير ليتميز عن المسكين، واختلافهم بلا ريب أدى إلى اختلافهم في معنى المسكين.

                                                          فقال الأكثرون: الفقير ضد الغني، وهو من لا يملك نصابا، وهو ما تكون قيمته عشرين مثقالا من ذهب، أو مائتي درهم من فضة، والمسكين من أسكنته الحاجة وأذلته، أي أنه دون الفقير حالا، وقيل العكس، ولكن الأكثرين على الأول.

                                                          وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه فسر المسكين بأنه المريض بمرض مزمن من أهل الذمة.

                                                          وروي أن المسكين هو المتجمل الذي لا يسأل الناس، ولا يلتفت الناس إليه، وقد روي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد روى أبو هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان" قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئا".

                                                          وقد اتفق الفقهاء على أنهما يعطيان من الصدقات، وإن كنت أرى أن المسكين أسوأ حالا من الفقير، فإن لم يكف ما يعطى لهما معا فإن المسكين يكون أولى بالعطاء.

                                                          ثم قال تعالى في الصنف الثالث، وهم العاملون عليها، أي الذين يجمعونها من أرباب الأموال، كما عين النبي - صلى الله عليه وسلم - ولاة لجمع الصدقات، كما عين الأمراء من بعده، وقرر الفقهاء أن أولئك يأخذون ولو كانوا ذوي مال، وقرر الحنفية والمالكية أن ما يأخذونه أجرة، ويكون قدرها بمقدار ما يراه ولي الأمر عليهم، على أنه أجرة عمل تكون متناسبة مع الأجرة في مثل هذا العمل.

                                                          [ ص: 3345 ] وقال آخرون: ليس لهم من العطاء إلا ما يكفيهم لأهلهم بالمعروف، يأخذونه جزاء احتباسهم وتفرغهم لهذا، ولو كانت لهم أموال، كما تأخذ الزوجة نفقتها من زوجها جزاء احتباسها، ولو كانت ذات مال، وهكذا أجر العامل لمصلحة الكافة، وإن هؤلاء يأخذون من الزكاة، وإن هذا يدل على أمرين:

                                                          أولهما - أن الزكاة لا تترك لأربابها يؤدونها، بل يجمعها ولي أمر المؤمنين أو من يوليه لذلك، وقد كان الأمر كذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر ، وفي عهد ذي النورين كان يجمع زكاة الأموال الظاهرة، وهي زكاة النعم والإبل والبقر والغنم، وزكاة الزروع والثمار، وزكاة الأموال التي تنتقل من مصر إلى مصر التي يجمعها العاشر، وأناب ذوي الأموال في أن يؤدوا زكاة الأموال الباطنة، وهي زكاة النقدين (الذهب والفضة) وعروض التجارة في أن يؤدوا هذه الزكاة، ولو بلغ الأمر أنهم لم يؤدوها جمعها منهم كما يجمع غيرها.

                                                          ثانيهما - أن الزكاة يجب أن تكون لها حصيلة قائمة بذاتها، والقائمون عليها يكونون منفصلين عن بقية العاملين في الدولة، ولذا عندما دونت الدواوين كان هناك ديوان هو ديوان الصدقات، أو كما سمي في كتب الفقه (بيت مال الصدقات).

                                                          والصنف الرابع: ذكره الله تعالى بقوله: والمؤلفة قلوبهم والمعنى اللفظي للنص القرآني السامي: الذين تؤلف قلوبهم بأن يقرب الإسلام إلى نفوسهم بعد أن كانوا ينفرون منه.

                                                          وهؤلاء الذين كان فيهم هذا الوصف كانوا على طوائف مختلفة، فمنهم الكبراء الذين يتزعمون قبائل فيعطى لهم من الصدقات ما يؤلفون به الضعفاء ليقربوا، ويأتلفوا الإسلام، ويهجروا الوثنية.

                                                          ومنهم من آمن وخلع الوثنية، ودخل في الإسلام ممن قال بلسانه ولم يؤمن قلبه، ومنهم من خضعوا للغلب، وطيبت قلوبهم لكي يؤمنوا، ويعتنقوا الإسلام.

                                                          وليس هذا رشوة لهم فقد أخضعوا واتبعوا، ويريد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل منهم مؤمنين بدل أن يكونوا خاضعين.

                                                          [ ص: 3346 ] ومنهم ناس كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - معهم حروب، وكان فيهم مقاتل في الحرب المحمدية، وكان لا بد من أن تطيب نفوسهم، وترضى قلوبهم، وتحل المودة محل الخصام والنفرة، فأعطاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهم أبو سفيان وأولاده وعلى رأسهم معاوية ابنه، ولعل هذا العطاء لهؤلاء فيه معنى الديات.

                                                          وهل هذا الصنف بقي بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ نقول: إنه باق ما بقي الإسلام إذا احتاج إليه المؤمنون، بل نقول: إن الحاجة إلى تأليف القلوب باق ما بقي الإسلام، وإنه لباق إلى يوم الدين.

                                                          وإن عمر لم يلغه أو ينسخه كما ادعى الكتاب، وإنما فعل عمر أنه منع استمرار العطاء لبعض الناس; لأنه لم يكن ذلك حقا مكتسبا لهم.

                                                          وإنه ممن ينطبق عليهم لفظ المؤلفة قلوبهم أولئك الذين يسلمون، فيخرجون من أهليهم أو قومهم، ولا يجدون ما يستطيعون أن يقيموا لأنفسهم أسرة أو يحرمون من مناصبهم، فإنه يجب أن تؤلف قلوبهم بتعويضهم عما خسروا بإسلامهم، ولنا في رسول الله أسوة حسنة، وإنه يجب أن ينفق على الدعوة الإسلامية من سهم المؤلفة قلوبهم ; لأن المقصد الأصلي من المؤلفة قلوبهم هو تثبيت الإسلام في قلوب لم يستقر فيها الإيمان، والله سبحانه وتعالى هو الموفق للحق.

                                                          الصنف الخامس: ذكره الله تعالى بقوله: وفي الرقاب أي الإنفاق لفك الرقاب; لأن دين الحرية لا يرضى بالرق، وقد عمل على الحد من أسباب الرقيق فألغاها كلها إلا الرق في الحروب فقد تركه; لأن الأعداء يسترقون من أسرانا، وقد أمرنا الله تعالى أن نرد الاعتداء بمثله فقال تعالى: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم

                                                          ومع أن الرق قد بقي في هذه الحدود الضيقة، فقد حث على العتق، وجعل له في الزكاة نصيبا مفروضا، يعان به المكاتب لفك رقبته، والمكاتب هو الذي اتفق [ ص: 3347 ] مع مالكه على أن يعتقه إذا أدى له ثمنه أو قيمته أو ما يتفقان عليه، ويسعى عاملا مجدا، حتى يجمع ثمنه، وقال تعالى: فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم فيعطى من سهمه في الصدقات ما يعينه على فك رقبته، وكذلك يشترى من هذا السهم عبيد ويعتقون، وكذلك تدفع منه فدية الأسارى من المؤمنين، حتى لا يسترقوا، وهكذا كل ما يعرض المؤمنين للرق يمنع بدفع مال من هذا السهم.

                                                          والصنف السادس: ذكره الله سبحانه وتعالى بقوله: والغارمين والغارم هو المدين الذي عليه غرامة وهي الدين، والغرم هو الدين الذي يلزم الشخص من غير جباية ولا خيانة كانت منه، وغرم أي وجب عليه غرم، والغارم من وجب عليه هذا الغرم، والدائن يقال له غريم؛ لأنه يلازم المدين ولا يفارقه.

                                                          ويجب أداء دين الغارم -أي المدين - من الصدقات إذا كان قد استدان في غير سفه، وعجز عن السداد من غير سفه، والتجار الذين يستدينون لجلب البضائع من الأقطار في حكمة وعناية بمتجرهم، ولكن تجارتهم تبور أو تغرق مركبها، أو تذهب أموالهم بأي سبب من أسباب الضياع، وكذلك الذين تحملوا ديات للصلح بين الناس، فإنه يؤدى ما تحملوه من مال الصدقات.

                                                          وإنما أديت ديون الغارمين من الصدقات للتعاون، ولإقالة العثرة، وازن بين هذا التعاون الباني والتكافل الذي بين المؤمنين، وازن بين هذا وبين القانون الروماني الذي كان قد عاصر نزول القرآن الكريم، وقد كان يجعل للدائن الحق في أن يملك رقبة المدين، وازن بين هذا القانون وقانون القرآن معجزة الله الكبرى، إذ يفرض من الصدقات سداد الدين عن المدينين.

                                                          وإن هذا القرآن يتحدى الأجيال كلها أن يأتوا بنظام بشري في أي بقعة من الأرض، أي بمثل ما أتى به من تكافل اجتماعي.

                                                          ونذكر هنا قصة صادقة حدثت في عهد الحاكم العادل حاكم بني أمية عمر بن عبد العزيز ، إنه ببركة العدالة وإعطاء كل ذي حق حقه فاض الخير وعم، ومن مظاهر ذلك أن والي الصدقات [ ص: 3348 ] في أفريقية ( تونس وليبيا والجزائر ) شكا من تكدس أموال الصدقات في بيت المال، فأرسل بذلك إلى عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - فأرسل إليه: سدد الدين عن المدينين، فسددها، ولكن مد الصدقات لم ينقطع، فأرسل يشكو امتلاء بيت المال، فأرسل إليه: اشتر عبيدا وأعتقها، فأخذ يشتري من عبيد المؤمنين ويعتقهم.

                                                          والصنف السابع: ذكره الله تعالى بقوله: وفي سبيل الله فسر هذا بعضهم بالإنفاق على المجاهدين إذا كانوا فقراء، وكانوا لا يجدون ما يحملهم، فيعطون من الصدقات ما يحملهم، وفسر بعضهم بالإنفاق على الجهاد بإعداد العدة للجيش وإمداده بكل ما يحتاج إليه جيش الإسلام من أدوات الحرب، والإنفاق على المجاهدين.

                                                          وبعض العلماء أدخل في سبيل الله الحج، وأجازوا أن ينفق الشخص من صدقاته ما ينفق في الحج، وأرى ألا ينفق عليه من مال الزكاة; لأنه لا يجب الحج إلا على من يستطيع إليه سبيلا، فهو شرط لوجوب أدائه، والزكاة فرض قائم بذاته، والقفال الشاشي قرر أن " في سبيل الله " تشمل كل وجوه البر.

                                                          وابن السبيل هو الذي انقطع عن ماله وكان في مكان لا مال فيه، وهو في حاجة إلى القوت والمأوى، وسمي ابن السبيل لأنه صار لا مأوى له، وكأن السبيل أبوه الذي يؤويه ويحميه.

                                                          وإيتاؤه أن يعطى ما يحفظ أمره، ويؤويه من غائلة الطريق، ويوصله إلى بلده حيث ماله، ويصح أن يكون عطاؤه عارية مستردة إن كان قادرا على الأداء، ويصح أن يكون عطاء غير مسترد، على حسب ما يرى أمير الصدقات.

                                                          وختم الله تعالى الآية بقوله تعالت كلماته: فريضة من الله والله عليم حكيم قال الزمخشري : إن (فريضة) بمعنى المصدر، أي فرضا من الله.

                                                          ولماذا لا تكون (فريضة) وصفا للصدقات وتوزيعها المحكم، أي أن هذا كله موصوف لفريضة، كفريضة الصلاة والصوم والحج، وأنها لازمة لزوم كل الفرائض [ ص: 3349 ] المشروعة، ونسبها سبحانه إلى الله منزلها، فقال: فريضة من الله ؟ وذلك لبيان لزومها ومنع تغييرها وإجمالها وضرورة إعطائها، وتعود على الذين لمزوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصدقات ببيان أن التقسيم من الله تعالى، وأن من يعيبه إنما يعيب الله سبحانه وتعالى.

                                                          وختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله تعالى: والله عليم حكيم وفيه إشارة إلى أن هذا التعاون بين الأغنياء والمحاويج يربي العزة، وهو تشريع من العزيز مانح العزة، الحكيم الذي يعلم الأشياء كلها، ويدبر الأمور بمقتضى حكمته، وينظمها بمقتضى علمه.

                                                          وقبل أن ننهي الكلام في آية الصدقات نشير إلى أمرين: أحدهما فقهي والآخر لغوي، ونبتدئ باللغوي وذلك أن الزمخشري - رحمه الله تعالى - بين السبب في التعدية باللام في الأربعة الأولى، وهي الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم، وذلك لأن العطاء لهؤلاء لا يكون إلا بالتمليك والاختصاص، فالفقراء والمساكين يأخذون بالتمليك ما يعطون، وكذلك العاملون عليها والمؤلفة قلوبهم، والأربعة الأخرى كانت التعدية بـ(في) فقال تعالى: وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فإن هؤلاء لا يأخذون، فالرقاب لا يأخذون، بل الذي يأخذ مالك الرقبة، وكذلك الغارمون لا يأخذون، إنما الذي يأخذ هو الدائن الغريم، وابن السبيل لا يملك، ولكن يطعم ويؤوى، والله أعلم.

                                                          أما الأمر الفقهي فهو أن الفقهاء قد اختلفوا أهذا الإحصاء للاستيعاب واختصاص العطاء في هؤلاء أم الصدقات تقسم ثمانية أقسام، فيكون لكل قسم ثمن الصدقات؟ قال الشافعي بذلك، وقال جمهور الفقهاء: إنه يقسم على مجموع الأقسام الثمانية، لا على كل قسم بحظه المعلوم، وولي الأمر ينفق لكل بما يراه أصلح وأعدل، والله سبحانه وتعالى أعلم.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية