الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ) الإغواء : الإيقاع في الغواية وهي ضد الرشاد ؛ لأنها في أصل اللغة بمعنى الفساد المردي من قولهم غوى الفصيل - كهوى ورمى ، وغوي كهوي ورضي - إذا فسد جوفه من كثرة اللبن فهزل وكاد يهلك . وصراط الله المستقيم هو الطريق الذي يصل سالكه إلى السعادة التي أعدها سبحانه لمن تتزكى نفسه بهداية الدين الحق وتكميل الفطرة ، والفاء لترتيب مضمون الجملة التي تليها على مضمون ما قبلها ، والباء للسببية أو القسم والمعنى فبسبب إغوائك إياي من أجل آدم وذريته أقسم لأقعدن لهم على صراطك المستقيم أو فيه أو لألزمنه فأصدهم عنه وأقطعه عليهم بأن أزين [ ص: 300 ] لهم سلوك طرق أخرى أشرعها لهم من جميع جوانبه ليضلوا عنه ، وهو ما فسر بقوله : ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ) أي فلا أدع جهة من جهاتهم الأربع إلا وأهاجمهم منها ، وهذه جهات معنوية كما أن الصراط الذي يريد إضلالهم عنه معنوي ، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل ) ( 6 : 153 ) الآية ما يوضح ما هنا ، وفسر في الآثار بالإسلام ، وبطريقي الهجرة والجهاد لصده عنهما ( ولا تجد أكثرهم شاكرين ) لنعمك عليهم في عقولهم ومشاعرهم وجوارحهم ومعايشهم وما يهديهم إلى تكميل فطرتهم من تعاليم رسلك لهم ، أي لا يكون الشكر التام الممكن صفة لازمة لأكثرهم بل للأقلين منهم ، قيل إنه قال هذا عن ظن فأصاب لقوله تعالى ( ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين ) ( 34 : 20 ) وقيل على علم بالدلائل لا بالغيب ، والدلائل النظرية غير القطعية ظنون . وتقدم تعريف الشكر في تفسير آية : ( ولقد خلقناكم ) وهي فاتحة هذا السياق .

                          روي عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير الأربع قال : ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ) قال أشككهم في آخرتهم ( ومن خلفهم ) فأرغبهم في دنياهم ( وعن أيمانهم ) أشبه عليهم أمر دينهم ( وعن شمائلهم ) أستن لهم المعاصي ( ولا تجد أكثرهم شاكرين ) قال : موحدين فسر الشكر بأصل أصوله ومنبت جميع فروعه وهو توحيد الربوبية والألوهية الذي هو منتهى الكمال في معرفته تعالى ، وفي رواية أخرى عنه . " من بين أيديهم " من قبل الدنيا ، " ومن خلفهم " - من قبل الآخرة " وعن أيمانهم " : من قبل حسناتهم " وعن شمائلهم " من جهة سيئاتهم ، وهي إنما تخالف الأولى في تفسير ما بين الأيدي والخلف مخالفة تناقض في اللفظ والمراد واحد ، وهو هل المراد فيما بين الأيدي ما هو حاضر أو ما هو مستقبل ، وهل المراد بالخلف ما يتركه المرء ويتخلف عنه وهو الدنيا أم ما هو وراء حياته الحاضرة وهو الآخرة ؟ اللفظ يحتمل التأويلين ، وعنه لم يستطع أن يقول " من فوقهم " علم أن الله فوقهم ، وفي لفظ : لأن الرحمة تنزل من فوقهم . وعن مجاهد وقتادة ما هو بمعنى ما ذكر مع تفصيل ما كما في الدر المنثور . وهما من تلاميذه رضي الله عنه والفوقية معنوية كغيرها ، وإثبات العلو والفوقية لله تعالى تنطق به الآيات والأحاديث الصحيحة ومن صفاته " العلي " فنؤمن به مع تنزيهه تعالى عما لا يليق به من صفات خلقه جميعا ، وقد شرحناه من قبل بما أثبتنا به مذهب السلف فيه ، وفي رواية عن مجاهد من بين أيديهم وعن أيمانهم من حيث يبصرون ، ومن خلفهم وعن شمائلهم حيث لا يبصرون ، وحاصل المعنى كما قال ابن جرير جميع طرق الخير والشر ، فالخير يصدهم عنه والشر يحسنه لهم ، وروى أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن حبان ، والحاكم من حديث ابن عمر قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه [ ص: 301 ] وسلم يدع هؤلاء الدعوات " اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي ، وعن يميني وعن شمالي ، ومن فوقي ، وأعوذ بك أن أغتال من تحتي " .

                          ( قال اخرج منها مذءوما مدحورا ) يقال ذأم المتاع ( من باب فتح ) وذامه بالتخفيف يذيمه ذيما وذاما ( بالقلب ) إذا عابه وذمه . ويقال دحر الجند العدو إذا طرده وأبعده فهو بمعنى اللعن ، وبذلك ورد التفسير المأثور للفظين ، والأمر الأول بالخروج قد ذكر لبيان سببه وهذا لبيان صفته ، والمعنى اخرج من الجنة أو المنزلة التي أنت فيها حال كونك معيبا مذموما من الله وملائكته مطرودا من جنته ، فهو بمعنى لعنه وجعله رجيما في آيات أخرى ( لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين ) جهنم اسم من أسماء دار الجزاء على الكفر والفسوق والعصيان ، أخبر تعالى خبرا مؤكدا بالقسم بأن من يتبع إبليس من ذرية آدم فيما يزينه لهم من الكفر والشرك والفجور والفسق ؛ فإن جزاءهم أن يكونوا معه أهل دار العذاب يملؤها منهم أجمعين ، وفي آخر سورة ص : ( لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ) ( 38 : 85 ) ويدخل في خطابه أعوانه في الإغواء من ذريته والنصوص فيهم كثيرة ، وقوله : ( منهم ) يدل على أن الملء يكون من بعضهم وإلا قيل : لأملأن جهنم بكم . وذلك أن بعض من يتبعه من المؤمنين الموحدين في بعض المعاصي يغفر الله لهم ويعفو عنهم .

                          وفي سورتي الحجر وص استثناء عباد الله المخلصين من إغوائه - لعنه الله - حكاية عنه وهو مقابل الأكثر هنا . وأكد سبحانه ذلك في سورة الحجر بقوله : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ) ( 15 : 42 ) ونحوه في سورة الإسراء ( 17 : 65 ) وفي سورة إبراهيم عليه السلام ما يفيد أنه ليس له سلطان على أحد ، وإنما هو داعية شر ، وما تبعه من تبعه إلا مختارا مرجحا للباطل على الحق وللشر على الخير ، فقد قال في سياق تخاصم أهل النار يوم القيامة من المستكبرين المضلين والضعفاء الذين اتبعوهم في ضلالهم : ( وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ) ( 14 : 22 ) وسيأتي فائدة التذكير بهذا عند تفسير الآيات الآتية في نصح بني آدم وتحذيرهم من طاعة الشيطان .

                          وقد استشكل بعض المفسرين ولا سيما المتكلمين منهم خطاب الرب سبحانه للشيطان في هذا التحاور الطويل واختلفوا فيه ، هل هو خطاب بواسطة الملائكة كالوحي لرسل البشر أم بغير واسطة وكيف وهو يقتضي التكريم ؟ وتحكموا في الجواب حتى قال بعضهم : إن الشيطان كان يطلع على اللوح المحفوظ فيعلم مراد الله في جواب أسئلته ، واستشكلوا أمر الله تعالى إياه بإغواء البشر وإضلالهم المبين في سورة الإسراء بقوله سبحانه : [ ص: 302 ] ( واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ) ( الآية 17 : 64 ) مع قوله تعالى ( إن الله لا يأمر بالفحشاء ) ( 7 : 28 ) وإنما يشكل هذا كله على ما جروا عليه من جعل الخطاب للتكليف . وأما إذا جعل الخطاب للتكوين كما صرح به ابن كثير فلا إشكال ، لأنه عبارة عن بيان الواقع من صفة طبيعة البشر وطبيعة الشيطان واستعدادهما وأعمالهما الاختيارية .

                          وللأشعرية والمعتزلة فيها جدل طويل ، فالأولون يثبتون الإغواء والإضلال لله تعالى ، وينفون رعاية الرب لمصالح العباد في كل من دينهم ودنياهم ، ويجعلون الإنسان مجبورا في صورة مختار ، والآخرون يخالفونهم ، فندع أمثال هذه المباحث الجدلية لابني بجدتها الرازي والزمخشري ، ونختم تفسير هذه الآيات ببيان حكمة الله تعالى في خلق إبليس وذريته الشياطين وكشف شبهة المستشكلين له ولخلق الإنسان مستعدا لقبول إغوائه فإنها مما يحتاج إليه هنا حتى على القول بأن السياق كله لبيان حقيقة التكوين .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية