الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 3883 ] [ 3 ] - باب مناقب أبي بكر - رضي الله عنه - الفصل الأول

6019 - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر - وعند البخاري أبا بكر - ولو كنت متخذا خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا ، ولكن أخوة الإسلام ومودته ، لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر ) .

وفي رواية : ( لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا ) . متفق عليه .

التالي السابق


[ 3 ] - باب مناقب أبي بكر - رضي الله عنه - الفصل الأول

6019 - ( عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إن من أمن الناس ) : بفتح الهمزة وميم وتشديد نون أي : أنعمهم ( علي ) : أو أبذلهم لأجلي ( في صحبته ) أي : دوام ملازمته ببذل نفسه في خدمتي ( وماله ) أي : وبذل ماله بل وجميع ماله في طريقي ( أبو بكر ) : كذا في صحيح مسلم ( وفي البخاري : ( أبا بكر ) أي : بالنصب وهو الظاهر ; لأن اسم ( إن ) والرفع مشكل ذكره الطيبي قال المظهر : وفيه أوجه الأول : أن يكون من زائدة على مذهب الأخفش ، وقيل : إن هاهنا بمعنى ( نعم ) كما في جواب قوله : لعن الله ناقة حملتني إليك إن وصاحبها فقوله : أبو بكر مبتدأ ، ومن أمن الناس خبره ، وقيل : اسم إن ضمير الشأن اه . فالتقدير أنه من أمن الناس أو هو من باب علي بن أبي طالب ، وأما ما توهم بعضهم من أن قوله : أبو بكر خبر مبتدأ محذوف ، هو هو على أنه جواب عن سؤال كأنه قيل من أمن الناس ، فقيل أبو بكر فغير صحيح لبقاء إن حينئذ بلا خبر قال التوربشتي : يريد أن من أبذلهم وأسمعهم من من عليه منا لا من من عليه منة إذ ليس لأحد أن يمتن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أنه ورد مورد الإحماد ، وإذا حمل على معنى الامتنان عاد ذما على صاحبه ; لأن المنة تهدم الصنيعة ( ولو كنت متخذا خليلا ) .

قال القاضي : الخليل الصاحب الواد الذي يفتقر إليه ، ويعتمد في الأمور عليه ، فإن أصل التركيب من الخلة بالفتح وهي الحاجة ، والمعنى لو كنت متخذا من الخلق خليلا أرجع إليه في الحاجات وأعتمد إليه في المهمات ( لاتخذت أبا بكر خليلا ) ، ولكن الذي ألجأ إليه وأعتمد عليه في جملة الأمور ومجامع الأحوال ، هو الله ، تعالى ، وإنما سمي إبراهيم - عليه السلام - خليلا من الخلة بالفتح التي هي الخصلة ، فإنه تخلق بخلال حسنة اختصت به أو من التخلل ، فإن الحب تخلل شغاف قلبه ، واستولى عليه ، أو من الخلة من حيث أنه - عليه السلام - ما كان يفتقر حال الافتقار إلا إليه ، وما كان يتوكل إلا عليه ، فيكون فعيل بمعنى فاعل . وفي الحديث بمعنى مفعول ( ولكن أخوة الإسلام ) : استدراك عن مضمون الجملة - الشرطية وفحواها ، كأنه قال : ليس بيني وبينه خلة ، ولكن بيننا في الإسلام أخوة ، فنفى الخلة المنبئة عن الحاجة وأثبت الإخاء المقتضي للمساواة في المحبة والألفة ولذا قال : ( ومودته ) ، أي : ومودة الإسلام الناشئة عن المحبة الدينية لا لغرض من الأغراض ( الدنيوية أو النفسية الدنية . قال السيد جمال الدين ، أي : لكن بيني وبينه أخوة الإسلام ، أو لكن أخوة الإسلام حاصلة ، أو لكن أخوة الإسلام أفضل ، كما وقع في بعض الطرق ، فإن أريد أفضلية أخوة الإسلام ومودته عن الخلة ، كما هو ظاهر من السوق يشكل ، فيجب أن يراد أفضليتها من غير الخلة ، أو يقال : أفضل بمعنى فاضل ، أو يقال : أخوة الإسلام التي بيني وبين أبو بكر أفضل من أخوة الإسلام التي بيني وبين غيره ، أو من أخوة الإسلام التي بينه وبين غيري ، والأول أحسن تأمل .

أقول : ويمكن أن يكون الحديث محمولا على ما كان تعاهد العرب من عهدة الأخوة وعقد الخلة والمحبة فيما بينهم ، فقال : ( لو كنت متخذا خليلا من الخلق لفقد الخلة وعهد المحبة لاتخذت أبا بكر خليلا من بين أصحابي ، ولكن أخوة الإسلام ومودته الشاملة له ولغيره كافية ، أو أفضل حيث إنه خالص لله وعلى وفق رضاه ومن غير ملاحظة من سواه . وقال ابن الملك : اللام في قوله : ولكن أخوة الإسلام للعهد أي : ولكن أخوة الإسلام الذي سبق من المسلمين أفضل ; لأن اتخاذه خليلا بفعله وأخوة الإسلام بفعل الله ، تعالى ، فما اختاره الله للنبي - صلى الله عليه وسلم - يكون أفضل مما اختاره لنفسه ( لا تبقين ) : بصيغة المجهول نهيا مؤكدا مشددا وفي نسخة بفتح أوله ، والمعنى لا تتركن باقية ( في المسجد ) أي : مسجد المدينة ( خوخة إلا خوخة أبي بكر ) . الخوخة بفتح الخاءين المعجمتين وسكون الواو كوة في الجدار تؤدي الضوء إلى البيت ، وقيل : باب صغير ينصب بين بيتين أو دارين ، ليدخل من أحدهما في الآخر .

[ ص: 3884 ] قال التوربشتي : وهذا الكلام كان في مرضه الذي توفي في آخر خطبة خطبها ، ولا خفاء بأن ذلك تعريض بأن أبا بكر هو المستخلف بعده ، وهذه الكلمة إن أريد بها الحقيقة ، فذلك لأن أصحاب المنازل اللاصقة بالمسجد قد جعلوا من بيوتهم مخترقا يمرون فيه إلى المسجد ، أو كوة ينظرون إليها منه ، فأمر بسد جملتها سوى خوخة أبي بكر تكريما له بذلك أولا ، ثم تنبيها للناس في ضمن ذلك على أمر الخلافة حيث جعله مستحقا لذلك دون الناس ، وإن أريد به المجاز فهو كناية عن الخلافة ، وسد أبواب المقالة دون التفوق إليها والتطوع عليها ، وأرى المجاز فيه أقوى ، إذ لم يصح عندنا أن أبا بكر كان له منزل بجنب المسجد ، وإنما كان منزله بالسنح من عوالي المدينة ، ثم أنه مهد المعنى المشار إليه ، وقرره بقوله : ( ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ) ليعلم أنه أحق الناس بالنيابة عنه ، وكفانا حجة على هذا التأويل تقديمه إياه في الصلاة ، وإباؤه كل الإباء أن يقف غيره ذلك الموقف اه .

وقيل : أراد - صلى الله عليه وسلم - بخوخة أبي بكر خوخة بنته عائشة ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بسد خوخات الأزواج إلا خوخة عائشة ، ووجه الإضافة إلى أبي بكر ظاهر لإمامته فيه بإذنه ، كما يشير إليه لفظ المسجد ، ذكره السيد جمال الدين . وفي الرياض : عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بسد أبواب الشوارع في المسجد إلا باب أبي بكر . أخرجه الترمذي ، وأبو حاتم وأخرجه ابن إسحاق وزاد في آخره ( فإني لا أعلم رجلا كان أفضل في الصحبة يدا منه ) . وعن جبير بن نفير : أن أبوابا كانت مفتحة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر بها فسدت ، غير باب أبي بكر فقالوا : سد أبوابنا غير باب خليله ، وبلغه ذلك فقام فيهم فقال : ( أتقولون سد أبوابنا وترك باب خليله ، فلو كان منكم خليل كان هو خليلي ، ولكني خليل الله فهل أنتم تاركون لي صاحبي فقد واساني بنفسه وماله وقال لي : صدق وقلتم كذب ) .

( وفي رواية ) أي : مستقلة ( لو كنت ) : وفي رواية بدلا مما قبله فكان المناسب أن يقول : ولو كنت ( متخذا خليلا غير ربي ) ، أي بإفادة هذه الزيادة ( لاتخذت أبا بكر خليلا ) . أي : لكن لا يجوز لي أن آخذ غير الله خليلا لأكون له خليلا ، سواء يكون بمعنى الفاعل أو المفعول ( متفق عليه ) . ورواه أحمد والترمذي وأبو حاتم . وفي مسند أبي يعلى ، عن ابن عباس : ( أبو بكر صاحبي ومؤنسي في الغار ، سدوا خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر ) . وأخرجه أحمد والبخاري وأبو حاتم واللفظ له ، عن ابن عباس ، أن رسول الله خرج في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه ، فجلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ( إنه ليس من الناس أحد أمن علي بنفسه وماله من ابن أبي قحافة ، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذته ، ولكن خلة الإسلام ، سدوا عني كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر ) . قال أبو حاتم ، وفي قوله : سدوا إلخ دليل على حسم أطماع الناس كلهم من الخلافة إلا أبا بكر .




الخدمات العلمية