الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [الخلع طلاق أم فسخ؟]

                                                                                                                                                                                        الخلع عند مالك طلقة بائنة. وقال ابن عباس، وطاوس، وعكرمة، وأحمد، وإسحاق: هو فسخ. وفي كتاب محمد عن عثمان - رضي الله عنه - "أن عدة المختلعة حيضة". وهذا دليل على أنه كان يرى الخلع فسخا. وقال أبو ثور: إن قال: خالعتك على ألف، كان فسخا. وإن قال: طلقتك على ألف، كان [ ص: 2522 ] طلاقا وله الرجعة. وقال الشافعي: هو فسخ إذا لفظ بالخلع ولم يذكر طلاقا، وهو نحو قول أبي ثور. وفي البخاري: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لثابت: "خذ الحديقة وطلقها تطليقة". فأمره أن يوقع تطليقة، وليس كذلك إذا قال: قد خالعتك بالحديقة، ولم يذكر طلاقا، فهو أشكل.

                                                                                                                                                                                        واختلف عن مالك في كون الطلقة بائنة هل ذلك شرع أم لا؛ لأنه قصد المخالع؟ فقال فيمن أعطت زوجها شيئا على أن يطلق طلقة رجعية: كانت بائنا، والشرط باطل; لأن سنة الخلع إذا لم يشترط فهي بائنة، وشرطه لا يحيل سنة الخلع.

                                                                                                                                                                                        وذكر أبو محمد عبد الوهاب: أن له شرطه، ورأى أن ذلك من حقوق الزوجين ليس بشرع، وهو أبين، والزوج بالخيار بين أن يقبل العوض على أن يوقع طلقة، ويبقى حقه في الرجعة، أو على أن يسقط حقه في الرجعة وتكون بائنة. [ ص: 2523 ]

                                                                                                                                                                                        واختلف أيضا فيمن قال: أنت طالق طلاق الخلع، ولم يأخذ منها شيئا، فقال مالك: تكون طلقة بائنة، وقاله ابن القاسم في كتاب محمد. وقال مطرف، وأشهب وابن عبد الحكم: هي واحدة رجعية. وقال ابن الماجشون: تكون ثلاثا. وكذلك إذا قال: قد خالعتك، ولك عشرة دنانير; لأن الدنانير إذا كانت منه كالمتعة لا يغير حكم الطلقة، بخلاف أن يكون المال منها، فإذا كان هو الدافع كانت الطلقة على ما نواه، فقول مالك: إنها واحدة بائنة موافق لما روي عنه إذا كان العطاء منها، وشرط الرجعة أنها رجعية، وأن الأمر راجع في الجميع إلى ما نوى.

                                                                                                                                                                                        والقول إنها رجعية وإن نوى أنها بائنة راجع إلى القول إذا أعطت، وشرط أنها تكون رجعية أنها تكون بائنة، ولا ينفعه الشرط، وإذا طلق وأعطى، فقال: أنت طالق، ولك عشرة دنانير وهذا الخادم، كانت واحدة، وله الرجعة والمال متعة، ولا خلاف أن مجرد القول أنت طالق أن له الرجعة، وأن إعطاءه المال مع ذلك لا يؤثر في الرجعة، بخلاف أن يكون المال منها، إلا أن ينوي بالطلقة أنها بائنة فيدخل الخلاف المتقدم، إذا قال: أنت طالق طلاق الخلع; لأنه نوى ذلك، ليس لأنه أعطاه مالا. وإلى هذا يرجع الخلاف الذي وقع في ذلك. [ ص: 2524 ]

                                                                                                                                                                                        وإن خالعت على إن طلبت ما أخذ منها رجعت زوجة، كان شرطه باطلا، فإن طلبت ذلك فأعاده وعادت زوجة فرق بينهما.

                                                                                                                                                                                        قال مالك في كتاب محمد: وليس لها بإصابتها إلا ما رد إليها، كان ذلك أقل من صداق مثلها أو أكثر، ولا يتزوجها; لأنه كالناكح في عدة. وقال محمد: هي له حلال بعد الاستبراء، وإن كانت حاملا فبعد الوضع، وليس كالناكح في عدة، وهو أبين; لأن منع النكاح في العدة خوف اختلاط الأنساب، وهذا النسب منه أولا وأخيرا.

                                                                                                                                                                                        ومحمل قوله في منع النكاح الآن على الاستحسان، فإن فعل لم يفسخ; لأن الماء ماؤه، ولو كان ذلك الآن محرما لحرمت للأبد إن فعل; لأن عمر - رضي الله عنه - إنما حرمها لموضع التعجيل، ولئلا تعود امرأة لمثل ذلك.

                                                                                                                                                                                        وإن أعطته مالا على أن يطلقها واحدة فطلقها ثلاثا، لزمه، ولا مقال لها، وهذا قول مالك. قال محمد: وإن أعطته على أن يطلقها ثلاثا فطلقها واحدة، كان ذلك له، ولا حجة لها; لأنها نالت بالواحدة ما تنال بالثلاث، يريد: لأنها بانت بها، وملكت نفسها.

                                                                                                                                                                                        وأرى إذا أعطته على أن يطلق واحدة فطلقها ثلاثا، أن ينظر إلى سبب ذلك، فإن كان راغبا في إمساكها فرغبت في الطلاق -ألا مقال لها; لأنها إنما [ ص: 2525 ] اشترت طلقة وسكتت عن الباقي. وإن كان رغب في طلاقها فأعطته على أن يكون طلاقه واحدة أن ترجع بجميع ما أعطته; لأنها إنما أعطته على ألا يوقع الاثنتين إلا واحدة لتحل له إن بدا لهما من قبل زوج، فإذا أوقعهما رجعت بما دفعت عنهما.

                                                                                                                                                                                        وكذلك إذا أعطته على أن يطلقها ثلاثا فطلقها واحدة ينظر في ذلك، فإن كان عازما على طلاقها واحدة كان لها أن ترجع بجميع ما أعطته; لأنها لاثنين أعطت، وإن كان راغبا في إمساكها فأعطته على أن يطلق ثلاثا جرت على قولين فيمن شرط شرطا لا ينفعه، هل يوفى به؟ فعلى القول في وجوب الوفاء به يكون لها أن ترجع بما ينوب الطلقتين، وجواب محمد على القول أنه لا يجب الوفاء به.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم في العتبية في المرأة تشتري من زوجها عصمته عليها. قال: هي ثلاث، وإن لم يسم طلاقا. قال: وكذلك إذا قالت: أشتري ملكك علي أو طلاقك علي. هو مثل عصمتك، وليست فدية، وهذه اشترت ما ملك منها. وقال عيسى: ما أراه إلا فدية، وهي واحدة بائنة كالفدية.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية