الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد )

قال الزمخشري : هذا مثل ضربه الله للحق وأهله ، والباطل وحزبه ، كما ضرب الأعمى والبصير ، والظلمات والنور ، مثلا لهما . فمثل الحق [ ص: 381 ] وأهله بالماء الذي ينزل من السماء فتسيل به أودية للناس فيحيون به وينفعهم أنواع المنافع ، وبالفلز الذي ينتفعون به في صوغ الحلي منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفة ، ولو لم يكن إلا الحديد الذي فيه البأس الشديد لكفى فيه ، وإن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهرا يثبت الماء في منافعه ، وتبقى آثاره في العيون والبئار والحبوب والثمار التي تنبت به مما يدخر ويكثر ، وكذلك الجواهر تبقى أزمنة متطاولة . وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة بزبد السيل الذي يرمى به ، وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب .

وقال ابن عطية : صدر هذه الآية تنبيه على قدرة الله تعالى ، وإقامة الحجة على الكفرة به ، فلما فرغ ذكر ذلك جعله مثالا للحق والباطل ، والإيمان والكفر ، والشك في الشرع واليقين به ، انتهى . وقيل : هذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن والقلوب والحق والباطل . فالماء مثل القرآن لما فيه من حياة القلوب وبقاء الشرع والدين ، والأودية مثل للقلوب ، ومعنى ( بقدرها ) على سعة القلوب وضيقها ، فمنها ما انتقع به فحفظه ووعاه وتدبر فيه ، فظهرت ثمرته وأدرك تأويله ومعناه ، ومنها دون ذلك بطبقة ، ومنها دونه بطبقات . والزبد مثل الشكوك والشبه وإنكار الكافرين أنه كلام الله ، ودفعهم إياه بالباطل . والماء الصافي المنتفع به مثل الحق ، انتهى . وفي الحديث الصحيح ما يؤيد هذا التأويل وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : " مثل ما بعثت به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا وكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها طائفة أجادب فأمسكت الماء فانتفع الناس به وسقوا ورعوا وكانت منها قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل ما جئت به من العلم والهدى ومثل من لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به " .

وقال ابن عطية : وروي عن ابن عباس أنه قال : قوله تعالى : ( أنزل من السماء ماء ) يريد به الشرع والدين ، ( فسالت أودية ) يريد القلوب ؛ أي : أخذ النبيل بحظه ، والبليد بحظه ، وهذا قول لا يصح - والله أعلم - عن ابن عباس ؛ لأنه ينحو إلى أقوال أصحاب الرموز ، وقد تمسك به الغزالي وأهل تلك الطريق ، ولا توجيه لإخراج اللفظ عن مفهوم كلام العرب بغير علة تدعو إلى ذلك ، والله الموفق للصواب . وإن صح هذا القول عن ابن عباس ، فإنما قصد أن قوله تعالى : ( كذلك يضرب الله الحق والباطل ) معناه : الحق الذي يتقرر في القلوب ، والباطل الذي يعتريها أيضا ، انتهى . والماء : المطر . ونكر ( أودية ) لأن المطر إنما يدل على طريق المناوبة ، فتسيل بعض الأودية دون بعض . ومعنى ( بقدرها ) أي : على قدر صغرها وكبرها ، أو بما قدر لها من الماء بسبب نفع الممطور عليهم لا ضررهم . ألا ترى إلى قوله : ( وأما ما ينفع الناس ) فالمطر مثل للحق ، فهو نافع خال من الضرر . وقرأ الجمهور : ( بقدرها ) بفتح الدال . وقرأ الأشهب العقيلي وزيد بن علي وأبو عمرو في رواية : بسكونها . وقال الحوفي : ( بقدرها ) متعلق بـ ( سالت ) . وقال أبو البقاء : ( بقدرها ) صلة لـ ( أودية ) ، وعرف السيل لأنه عنى به ما فهم من الفعل ، والذي يتضمنه الفعل من المصدر هو نكرة ، فإذا عاد عليه الظاهر كان معرفة ، كما كان لو صرح به نكرة ، ولذلك تضمن إذا عاد ما دل عليه الفعل من المصدر نحو : من كذب كان شرا له أي : كان الكذب شرا له ، ولو جاء هنا مضمرا لكان جائزا عائدا على المصدر المفهوم من ( فسالت ) واحتمل بمعنى حمل ، جاء فيه افتعل بمعنى المجرد كاقتدر وقدر . و ( رابيا ) منتفخا عاليا على وجه السيل ، ومنه الربوة . " ومما توقدون عليه " ؛ أي : ومن الأشياء التي توقدون عليها وهي الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والقصدير ونحوها مما يوقد عليه وله زبد . وقرأ حمزة والكسائي وحفص وابن محيصن ومجاهد وطلحة ويحيى وأهل الكوفة : ( يوقدون ) بالياء على الغيبة ، أي يوقد الناس . وقرأ باقي السبعة والحسن وأبو جعفر والأعرج وشيبة : بالتاء على الخطاب [ ص: 382 ] وعليه متعلق بـ ( توقدون ) و ( في النار ) . قال أبو علي والحوفي : متعلق بتوقدون . وقال أبو علي : قد يوقد على كل شيء وليس في النار كقوله : ( فأوقد لي ياهامان على الطين ) فذلك البناء الذي أمر به يوقد عليه ، وليس في النار ، لكن يصيبه لهبها . وقال مكي وغيره : ( في النار ) متعلق بمحذوف تقديره : كائنا أو ثابتا ، ومنعوا تعليقه بقوله : ( توقدون ) لأنهم زعموا أنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار ، وتعليق حرف الجر بتوقدون يتضمن تخصيص حال من حال أخرى ، انتهى . ولو قلنا : إنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار ، لجاز أن يكون متعلقا بتوقدون ، ويجوز ذلك على سبيل التوكيد كما قالوا في قوله : ( يطير بجناحيه ) . وانتصب ( ابتغاء ) على أنه مفعول من أجله ، وشروط المفعول من أجله موجودة فيه . وقال الحوفي : هو مصدر في موضع الحال أي : مبتغين حلية ، وفي ذكر متعلق ( ابتغاء ) تنبيه على منفعة ما يوقدون عليه . والحلية : ما يعمل للنساء مما يتزين به من الذهب والفضة . والمتاع : ما يتخذ من الحديد والنحاس وما أشبههما من الآلات التي هي قوام العيش كالأواني والمساحي وآلات الحرب ، وقطاعات الأشجار والسكك وغير ذلك . و ( زبد ) مرفوع بالابتداء ، وخبره في قوله : ( ومما توقدون ) . ومن الظاهر أنها للتبعيض ؛ لأن ذلك الزبد هو بعض ما يوقد عليه من تلك المعادن . وأجاز الزمخشري أن تكون ( من ) لابتداء الغاية ؛ أي : ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء ، والمماثلة في كونهما يتولدان من الأوساخ والأكدار ، والحق والباطل على حذف مضاف ؛ أي : مثل الحق والباطل . شبه الحق بما يخلص من جرم هذه المعادن من الأقذار والخبث ودوام الانتفاع بها ، وشبه الباطل بالزبد والمجتمع من الخبث والأقذار ، ولا بقاء له ولا قيمة . وفصل ما سبق ذكره مما ينتفع به ومن الزبد ، فبدأ بالزبد إذ هو المتأخر في قوله : ( زبدا رابيا ) ، وفي قوله : ( زبد مثله ) ولكون الباطل كناية عنه وصف متأخر ، وهي طريقة فصيحة يبدأ في التقسيم بما ذكر آخرا كقوله : ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم ) والبداءة بالسابق فصيحة مثل قوله : ( فمنهم شقي وسعيد ) ، ( فأما الذين شقوا ففي النار ) وكأنه - والله أعلم - يبدأ في التفصيل بما هو أهم في الذكر . وانتصب ( جفاء ) على الحال ؛ أي : مضمحلا متلاشيا لا منفعة فيه ولا بقاء له . والزبد يراد به ما سبق من ما احتمله السيل وما خرج من حيث المعادن ، وأفرد الزبد بالذكر ولم يثن ، وإن تقدم زبدان لاشتراكهما في مطلق الزبدية ، فهما واحد باعتبار القدر المشترك . وقرأ رؤبة : ( جفالا ) باللام بدل الهمزة من قولهم : جفلت الريح السحاب إذا حملته وفرقته . وعن أبي حاتم : لا يقرأ بقراءة رؤبة ؛ لأنه كان يأكل الفأر - بمعنى : أنه كان أعرابيا جافيا - . وعن أبي حاتم أيضا : لا تعتبر قراءة الأعراب في القرآن .

( وأما ما ينفع الناس ) أي : من الماء الخالص من الغناء ومن الجوهر المعدني الخالص من الخبث أي : مثل ذلك الضرب كمثل الحق والباطل ( يضرب الله الأمثال ) .

والظاهر أنه لما ضرب هذا المثل للحق والباطل انتقل إلى ما لأهل الحق من الثواب ، وأهل الباطل من العقاب ، فقال : ( للذين استجابوا لربهم الحسنى ) أي : الذين دعاهم الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - فأجابوا إلى ما دعاهم إليه من اتباع دينه الحالة الحسنى ، وذلك هو النصر في الدنيا وما اختصوا به من نعمة الله ، ودخول الجنة في الآخرة . فـ ( الحسنى ) مبتدأ ، وخبره في قوله : ( للذين ) ، ( والذين لم يستجيبوا ) مبتدأ ، خبره ما بعده . وغاير بين جملتي الابتداء لما يدل عليه تقديم الجار والمجرور في الاعتناء والاهتمام ، وعلى رأي الزمخشري من الاختصاص أي : لهؤلاء الحسنى لا لغيرهم . ولأن قراءة شيوخنا يقفون على قوله : ( الأمثال ) ويبتدئون ( للذين ) .

وعلى هذا المفهوم أعرب الحوفي ( الحسنى ) مبتدأ ، و ( للذين ) خبره ، وفسر ابن عطية وفهم السلف . قال ابن عباس : جزاء الحسنى وهي لا إله إلا الله . وقال مجاهد : الحياة الحسنى ما في الطيبة . وقيل : الجنة لأنها في نهاية الحسنى . وقيل : المكافأة أضعافا . وعلق الزمخشري [ ص: 383 ] للذين بقوله : ( يضرب ) فقال : ( للذين استجابوا ) متعلقة بـ ( يضرب ) أي : كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا ، وللكافرين الذين لم يستجيبوا ؛ أي : هما مثلا الفريقين .

و ( الحسنى ) صفة لمصدر ( استجابوا ) أي : استجابوا الاستجابة الحسنى . وقولهم : ( لو أن لهم ) كلام مبتدأ ، ذكر ما أعد لغير المستجيبين ، انتهى .

والتفسير الأول أولى ؛ لأنه فيه ضرب الأمثال غير مقيد بمثل هذين ، والله تعالى قد ضرب أمثالا كثيرة في هذين وفي غيرهما ، ولأنه فيه ذكر ثواب المستجيبين بخلاف قول الزمخشري ، فكما ذكر ما لغير المستجيبين من العقاب ، ذكر ما للمستجيبين من الثواب ، ولأن تقديره " الاستجابة الحسنى " مشعر بتقييد الاستجابة ، ومقابلها ليس نفي الاستجابة مطلقا ، إنما مقابلها نفي الاستجابة الحسنى ، والله تعالى قد نفى الاستجابة مطلقا ، ولأنه على قوله يكون قوله : ( لو أن لهم ما في الأرض جميعا ) كلاما مفلتا مما قبله ، أو كالمفلت ، إذ يصير المعنى : كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين والكافرين لو أن لهم ما في الأرض ، فلو كان التركيب بحرف رابط " لو " بما قبلها زال التفلت ، وأيضا فيوهم الاشتراك في الضمير ، وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوما لهم . وأيضا فقد جاء هذا التركيب ، وتقدم تفسير مثل قوله : ( لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به ) و ( سوء الحساب ) قال ابن عباس : أن لا تقبل حسناتهم ولا تغفر سيئاتهم . وقال النخعي وشهد فرقد : أن يحاسب على ذنوبه كلها ، ويحاسب ويؤاخذ بها من غير أن يغفر له شيء . وقال أبو الجوزاء : المناقشة . وقيل : للتوبيخ عند الحساب والتقريع ، وتقدم تفسير مثل ( ومأواهم جهنم وبئس المهاد )

التالي السابق


الخدمات العلمية