الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : اختلف القراء في إثبات الهاء في الوصل من قوله : ( لم يتسنه ) و ( اقتده ) [ الأنعام : 90] و ( ماليه ) [ الحاقة : 28 ] و ( سلطانيه ) [ الحاقة : 29 ] و ( ما هيه ) [القارعة : 10] بعد أن اتفقوا على إثباتها في الوقف ، فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم هذه الحروف كلها بإثبات الهاء في الوصل ، وكان حمزة يحذفهن في الوصل وكان الكسائي يحذف الهاء في الوصل من قوله : ( لم يتسنه ) و ( اقتده ) [الأنعام : 90] ويثبتها في الوصل في الباقي ، ولم يختلفوا في قوله : ( لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه ) [الحاقة : 25 ، 26] أنها بالهاء في الوصل والوقف .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : أما الحذف ففيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن اشتقاق قوله ( يتسنه ) من السنة ، زعم كثير من الناس أن أصل السنة سنوة ، قالوا : والدليل عليه أنهم يقولون في الاشتقاق منها أسنت القوم إذا أصابتهم السنة ، وقال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                            ورجال مكة مسنتون عجاف



                                                                                                                                                                                                                                            ويقولون في جمعها : سنوات ، وفي الفعل منها : سانيت الرجل مساناة إذا عامله سنة سنة ، وفي التصغير : سنية . إذا ثبت هذا كان الهاء في قوله : ( لم يتسنه ) للسكت لا للأصل .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : نقل الواحدي عن الفراء أنه قال : يجوز أن تكون أصل سنة سننة ، لأنهم قالوا في تصغيرها : سنينة وإن كان ذلك قليلا ، فعلى هذا يجوز أن يكون ( لم يتسنه ) أصله لم يتسنن ، ثم أسقطت النون الأخيرة ثم أدخل عليها هاء السكت عند الوقف عليه ، كما أن أصل لم يتقض البازي لم يتقضض البازي ثم أسقطت الضاد الأخيرة ، ثم أدخل عليه هاء [ ص: 31 ] السكت عند الوقف ، فيقال : لم يتقضه .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن يكون ( لم يتسنه ) مأخوذا من قوله تعالى : ( من حمإ مسنون ) [الحجر : 26] والسن في اللغة هو الصب ، هكذا قال أبو علي الفارسي ، فقوله : لم يتسنن ، أي : الشراب بقي بحاله لم ينضب ، وقد أتى عليه مائة عام ، ثم إنه حذفت النون الأخيرة وأبدلت بهاء السكت عند الوقف على ما قررناه في الوجه الثاني ، فهذه الوجوه الثلاثة لبيان الحذف ، وأما بيان الإثبات فهو أن ( لم يتسنه ) مأخوذ من السنة ، والسنة أصلها سنهة ، بدليل أنه يقال في تصغيرها : سنيهة ، ويقال : سانهت النخلة بمعنى عاومت ، وآجرت الدار مسانهة ، وإذا كان كذلك فالهاء في ( لم يتسنه ) لام الفعل ، فلا جرم لم يحذف البتة لا عند الوصل ولا عند الوقف .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قوله تعالى : ( لم يتسنه ) أي : لم يتغير وأصل معنى ( لم يتسنه ) أي : لم يأت عليه السنون لأن مر السنين إذا لم يتغير فكأنها لم تأت عليه ، ونقلنا عن أبي علي الفارسي : لم يتسنن أي : لم ينضب الشراب . بقي في الآية سؤالان :

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الأول : أنه تعالى لما قال : ( بل لبثت مائة عام ) كان من حقه أن يذكر عقيبه ما يدل على ذلك . وقوله : ( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) لا يدل على أنه لبث مائة عام ، بل يدل ظاهرا على ما قاله من أنه لبث يوما أو بعض يوم .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أنه كلما كانت الشبهة أقوى مع علم الإنسان في الجملة أنها شبهة كان سماع الدليل المزيل لتلك الشبهة آكد ووقوعه في العمل أكمل ، فكأنه تعالى لما قال : ( بل لبثت مائة عام ) قال : ( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) فإن هذا مما يؤكد قولك : ( لبثت يوما أو بعض يوم ) فحينئذ يعظم اشتياقك إلى الدليل الذي يكشف عن هذه الشبهة ، ثم قال بعده : ( وانظر إلى حمارك ) فرأى الحمار صار رميما وعظاما نخرة فعظم تعجبه من قدرة الله تعالى ، فإن الطعام والشراب يسرع التغير فيهما ، والحمار ربما بقي دهرا طويلا وزمانا عظيما ، فرأى ما لا يبقى باقيا ، وهو الطعام والشراب ، وما يبقى غير باق وهو العظام ، فعظم تعجبه من قدرة الله تعالى ، وتمكن وقوع هذه الحجة في عقله وفي قلبه .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : أنه تعالى ذكر الطعام والشراب ، وقوله : ( لم يتسنه ) راجع إلى الشراب لا إلى الطعام .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : كما يوصف الشراب بأنه لم يتغير ، كذلك يوصف الطعام بأنه لم يتغير ، لا سيما إذا كان الطعام لطيفا يتسارع الفساد إليه ، والمروي أن طعامه كان التين والعنب ، وشرابه كان عصير العنب واللبن ، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه " وانظر إلى طعامك وهذا شرابك لم يتسنن " .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( وانظر إلى حمارك ) فالمعنى أنه عرفه طول مدة موته بأن شاهد عظام حماره نخرة رميمة ، وهذا في الحقيقة لا يدل بذاته ، لأنه لما شاهد انقلاب العظام النخرة حيا في الحال علم أن القادر على ذلك قادر على أن يميت الحمار في الحال ويجعل عظامه رميمة نخرة في الحال ، وحينئذ لا يمكن الاستدلال بعظام الحمار على طول مدة الموت ، بل انقلاب عظام الحمار إلى الحياة معجزة دالة على صدق ما سمع من قوله : ( بل لبثت مائة عام ) قال الضحاك : معنى قوله أنه لما أحيي بعد الموت كان دليلا على صحة البعث ، وقال غيره : كان آية لأن الله تعالى أحياه شابا أسود الرأس ، وبنو بنيه شيوخ بيض اللحى والرءوس .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 32 ] أما قوله تعالى : ( ولنجعلك آية للناس ) فقد بينا أن المراد منه التشريف والتعظيم والوعد بالدرجة العالية في الدين والدنيا ، وذلك لا يليق بمن مات على الكفر والشك في قدرة الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : ما فائدة الواو في قوله : ( ولنجعلك ) ؟ قلنا : قال الفراء : دخلت الواو لأنه فعل بعدها مضمر ، لأنه لو قال : وانظر إلى حمارك لنجعلك آية ، كان النظر إلى الحمار شرطا ، وجعله آية جزاء ، وهذا المعنى غير مطلوب من هذا الكلام ، أما لما قال : ( ولنجعلك آية ) كان المعنى : ولنجعلك آية فعلنا ما فعلنا من الإماتة والإحياء ، ومثله قوله تعالى : ( وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ) [الأنعام : 15] والمعنى : وليقولوا درست صرفنا الآيات ( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ) [الأنعام : 75] أي : ونريه الملكوت .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( وانظر إلى العظام ) فأكثر المفسرين على أن المراد بالعظام عظام حماره ، فإن اللام فيه بدل الكناية ، وقال آخرون : أرادوا به عظام هذا الرجل نفسه ، قالوا : إنه تعالى أحيا رأسه وعينيه ، وكانت بقية بدنه عظاما نخرة ، فكان ينظر إلى أجزاء عظام نفسه فرآها تجتمع وينضم البعض إلى البعض ، وكان يرى حماره واقفا كما ربطه حين كان حيا لم يأكل ولم يشرب مائة عام ، وتقدير الكلام على هذا الوجه : وانظر إلى عظامك ، وهذا قول قتادة والربيع وابن زيد ، وهو عندي ضعيف لوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن قوله ( لبثت يوما أو بعض يوم ) إنما يليق بمن لا يرى أثر التغير في نفسه فيظن أنه كان نائما في بعض يوم ، أما من شاهد أجزاء بدنة متفرقة ، وعظام بدنة رميمة نخرة ، فلا يليق به ذلك القول .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه تعالى حكى عنه أنه خاطبه وأجاب ، فيجب أن يكون المجيب هو الذي أماته الله ، فإذا كانت الإماتة راجعة إلى كله ، فالمجيب أيضا الذي بعثه الله يجب أن يكون جملة الشخص .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن قوله : ( فأماته الله مائة عام ثم بعثه ) يدل على أن تلك الجملة أحياها وبعثها .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( كيف ننشرها ) فالمراد يحييها ، يقال : أنشر الله الميت ونشره ، قال تعالى : ( ثم إذا شاء أنشره ) [عبس : 22 ] وقد وصف الله العظام بالإحياء في قوله تعالى : ( قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها ) [يس : 78 ، 79] وقرئ " ننشرها " بفتح النون وضم الشين ، قال الفراء : كأنه ذهب إلى النشر بعد الطي ، وذلك أن بالحياة يكون الانبساط في التصرف ، فهو كأنه مطوي ما دام ميتا ، فإذا عاد صار كأنه نشر بعد الطي ، وقرأ حمزة والكسائي " ننشزها " بالزاي المنقوطة من فوق ، والمعنى نرفع بعضها إلى بعض ، وإنشاز الشيء رفعه ، يقال أنشزته فنشز ، أي : رفعته فارتفع ، ويقال لما ارتفع من الأرض نشز ، ومنه نشوز المرأة ، وهو أن ترتفع عن حد رضا الزوج ، ومعنى الآية على هذه القراءة : كيف نرفعها من الأرض فنردها إلى أماكنها من الجسد ونركب بعضها على البعض ، وروي عن النخعي أنه كان يقرأ " ننشزها " بفتح النون وضم الشين والزاي ، ووجهه ما قال الأخفش أنه يقال : نشزته وأنشزته أي : رفعته . والمعنى من جميع القراءات أنه تعالى ركب العظام بعضها على بعض حتى اتصلت على نظام ، ثم بسط اللحم عليها ، ونشر العروق والأعصاب واللحوم والجلود عليها ، ورفع بعضه إلى جنب البعض ، فيكون كل القراءات داخلا في ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( فلما تبين له ) وهذا راجع إلى ما تقدم ذكره من قوله : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) [ ص: 33 ] والمعنى : فلما تبين له وقوع ما كان يستبعد وقوعه . وقال صاحب الكشاف : فاعل " تبين له " مضمر تقديره فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير قال : ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، وهذا عندي فيه تعسف ، بل الصحيح أنه لما تبين له أمر الإماتة والإحياء على سبيل المشاهدة قال : ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) وتأويله : أني قد علمت مشاهدة ما كنت أعلمه قبل ذلك الاستدلال . وقرأ حمزة والكسائي " قال اعلم " على لفظ الأمر ، وفيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أنه عند التبين أمر نفسه بذلك ، قال الأعشى :


                                                                                                                                                                                                                                            ودع أمامة إن الركب قد رحلوا



                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن الله تعالى قال : ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) ويدل على صحة هذا التأويل قراءة عبد الله والأعمش : ( قيل أعلم أن الله على كل شيء قدير ) ويؤكده قوله في قصة إبراهيم : ( رب أرني كيف تحي الموتى ) ثم قال في آخرها : ( واعلم أن الله عزيز حكيم ) قال القاضي : والقراءة الأولى أولى ، وذلك لأن الأمر بالشيء إنما يحسن عند عدم المأمور به ، وههنا العلم حاصل بدليل قوله : ( فلما تبين له ) فكان الأمر بتحصيل العلم بعد ذلك غير جائز ، أما الإخبار عن أنه حصل كان جائزا .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية