الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
(الفصل العاشر: في ذكر شيء من فتاويه غير ما تضمنته فتاويه المشهورة)

سئل ما قوله فيمن يغتاب كافرا أيأثم بذلك أم لا؟ وهل يفترق الحال بين الذمي والحربي؟ وفيمن يغتاب مبتدعا بغير بدعته أيحرم أم لا؟

الجواب وبالله التوفيق: الغيبة المنهي عنها هي أن يذكر المغتاب بما يكرهه إذا سمعه وإن كان صادقا، وهو في حق المسلم محذور لثلاث علل: إحداها: ما فيه من الإيذاء إن سمعه، أو يضيق بسببه إن لم يسمعه .

والثانية: إن فيه تنقص ما هو فعل الله تعالى، فإن الله -عز وجل- هو خالق الخلق، وهو خالق صفاتهم وأفعالهم وأخلاقهم حتى ينهى بسبب هذا عن مذمة الأطعمة الرديئة وتنقصها .

والثالثة: أنه يضيع الوقت بما لا يعني، وهو جار في النطق بما ليس فيه غرض صحيح .

والعلة الأولى تقتضي التحريم ; فإن إيذاء المسلم حرام، والثانية تقتضي الكراهة وهو يطرد في الأطعمة والحيوانات، والثالثة يقال: إن تركه أولى، وهو رتبة دون الكراهة، فهم ذلك من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".

فإذا فهم هذا في المسلم، فالكافر إن كان حربيا فإيذاؤه ليس بحرام؛ إذ لا عصمة له، فتزول علة التحريم، ويبقى أنه تنقص لما هو من خلق الله تعالى، فإن كان ذلك تعرضا لذميم أخلاقه لا لنشأة خلقته، وانضم إليه الإشعار، وقال ذلك من أثر ضلاله وكفره؛ تنفيرا عن الكفر، وتحقيرا له ببيان أنه مما ينتج الأخلاق السيئة، فهذا لا كراهية فيه، وإن لم يكن [ ص: 15 ] على القصد، ولا مع هذا الشعار ولم تكن فيه فائدة التنبيه من تحذير وتحقير فالكراهية فيها أخف، وإنما لا تستشعر النفس فيها كراهة; لأنه يسبق إليها أن مذمته مذمة الكفر؛ إشارة إليه، وقد سبق أن ذلك لا بأس به، وهذا بأن يكون مندوبا أشبه من أن يكون مكروها .

وأما التعرض لبشرة خلقته فالكراهة فيها أخف من التعرض للأطعمة والبهائم; لأنه مما استحق إيذاؤه، ويمكن أيضا أن يوهم أن ذلك من شؤم ضلاله، وأنه عذاب له على كفره .

وأما الذمي فهو كالمسلم فيما يرجع إلى المنع من الإيذاء؛ لأن الشرع عصم عرضهم، كما عصم دمهم وأموالهم .

وأما المبتدع إن كفر فهو كالحربي وإن لم يكفر فهو كالمسلم، وأما ذكره ببدعته فليس مكروها، وكذا ذكر أخلاقه في معرض التعليل بشؤم البدعة، فلا بأس به، فأما ذكر خلقته فلا وجه له، والله أعلم. كتبه الغزالي .

وسئل ما يقول -أدام الله علوه-: هل يجوز الغرس في المسجد أم لا؟ وإن غرس فالفاكهة الحاصلة منها من يملكها، وإن غرس على أن تكون الفاكهة مباحة للمسلمين، هل يجوز أم لا؟

الجواب وبالله التوفيق: ينظر إلى الغارس فإن غرس لنفسه منع منه مهما كان قصده الانتفاع بالمسجد، فإن فعل وحصلت الفاكهة، فهي له وعليه أجرة المثل للمسجد، لأنه استوفى منافعه، فهو كما لو أحرق خشبا من المسجد، تلزمه الغرامة، ويجوز الأكل من الفاكهة بإذن المالك ما دام حيا، فإذا مات قبل أداء الأجرة تعلق حق الأجرة بالشجرة والثمرة، وصار مرهونا، فلا يجوز الأكل منه بالإذن السابق، فإنه متعلق بحق المسجد .

وإن غرس على أن يكون الغراس للمسجد، وينصرف الريع إلى مصالحه، فذلك غير جائز إلا أن يكون المسجد واسعا، وتكون فيه فائدة للمصلين بالاستظلال، إن لم يكن فيه ما يجمع من الطيور وما ينجس المسجد، فيرخص فيه، كما في بناء السقف، فإن فائدة الاستظلال من الشمس مقصودة، وما يشغله الشجر من عرصة المسجد أقل مما تشغله الحيطان .

فأما إذا غرس على أن يكون وقفا على قوم لا تعلق لهم بالمسجد، فيمنع منه، كما لو غرس لنفسه؛ إذ لا يجوز صرف منافع المسجد إلا إلى مصلحة المسجد، ومصلحة قيام الصلاة فيه .

وإن غرس على أن يكون وقفا على المجاورين والمصلين فيه، فهذا له تعلق بالمسجد محتمل جوازه، ويمكن ألا يجوز صرف مال المسجد إذا فضل من مصالحها إلى المجاورين، وإن جاز صرفها إلى الإمام والمؤذن، فمن هذا الوجه يكاد يلتحق المجاور بسائر المسلمين .

وإن أشكل الأمر ولم يدر أنه على نية قصد فالأصل بقاؤه على ملكه، فيجعل كأنه غرس لنفسه، فعلى المتولي قلعه; لأنه لا سبيل إلى تركه مجانا، ولا إلى تركه للأجرة، فإن ذلك اختيار لبيع المنفعة في المستقبل، بخلاف ما حصل فواته في الماضي فإن غرامة ذلك تشبه غرامة إتلاف الوقف والمستولدة .

وأما التبقية اختيارا بالأجرة فشبه إجارة المسجد وبيع الوقف والمستولدة، فينبغي أن يرد ما فضل من الأجرة بعد القلع إلى المالك، أو وارثه، وإن كان الغارس قد مات ولم يبق له وارث فهو متعلق أجرة المسجد، فيؤخذ للمسجد بدل ما وجب من الأجرة، فإن فضل شيء أو لم تكن أجرة باقية فهو مال المصالح .

فإن رأى القاضي من المصلحة أن يتركه، ويجعله وقفا على المسجد فله ذلك، وإن كان في المصالح ما هو أهم من المسجد وكان للمسجد فائدة بإبقائه للاستظلال، وأراد بقاءه ليأخذ من فاكهته للمسجد بقدر الأجرة ويصرف الفاضل إلى المصالح فهذا قد يصادم فيه محذوران:

أحدهما: قلعه مع أنه فيه فائدة للاستظلال كما في البناء، والآخر إبقاؤه بالأجرة، وكأنه إجارة، والأليق بمصلحة الجوانب الرخصة في الإبقاء؛ إذ ليس في قلعه للمسجد فائدة، وله في إبقائه فائدة، ومع هذا فلو اتسع خطة المسجد، وأراد المتولي أن يزرع بعض جوانب المسجد فيتخذه مستغلا للمسجد، أو يجعل بعض بيوته مستغلا لم يجز؛ لأن ذلك اكتساب مال المسجد، وليس في نفس الزرع للمصلين فائدة بخلاف الشجرة ذات الظل، فإنها تقوم في دفع حر الشمس عن المصلين مقام السقف؛ فلأجل ذلك رخص في غرسه وإبقائه عند اتساع المسجد، والله أعلم، كتبه الغزالي .

وسئل ما قوله -دام علوه- في المصلى المبني لصلاة العيد خارج البلد أله حكم المسجد في الأحكام أم لا؟ وإن لم يكن فما سببه، ولم يبن إلا للصلاة؟

الجواب وبالله التوفيق: لا يثبت له حكم المسجد في الاعتكاف، ومكث الجنب، وغيره من الأحكام; لأن المسجد هو الذي أعد لرواتب الصلاة، وعين له، حتى لا ينتفع به في غيرها [ ص: 16 ] وموضع صلاة العيد معد للاجتماعات، ولنزول القوافل، ولركوب الدواب، ولعب الصبيان، ولم تجر عادة من سلف بالمنع من شيء من ذلك فيه، فلو اعتقدوه مسجدا لصانوه عن هذه الأسباب، ولقصد لإقامة سائر الصلوات، فصلاة العيد تطوع، وهو أيضا لا يكثر تكرره، ولا يبنى ذلك لقصد الصلاة، بل للاجتماع، وتكون كالتبع في القصد. والله أعلم، كتبه الغزالي .

وسئل ما قوله -دام علوه-: فيما أقطع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تميما الداري -رضي الله عنه- من الشام قبل أن ملكه أهل الإسلام ما وجه صحته، مع أنه جرى قبل الملك، ولم يتصل به القبض، ولم يجر تحديد محل الإقطاع، وهل يجوز للإمام أن ينتزع ذلك من يد أولاده؟ ومتى يحصل الملك للمقطع؟ يتفضل بشرح القول فيه .

الجواب وبالله التوفيق: ذلك الإقطاع صحيح، والملك حاصل لتميم الداري، ومنتقل إلى أعقابه بالوراثة، ووقت حصول الملك عند تسليم الإمام المستولي عليه إليه، ووجه صحته أنه كان -صلى الله عليه وسلم- مختصا بالصفايا من المغنم حتى كان يختار من المغنم ما يريد، ويرفع ملك المسلمين عنه بعد استيلائهم، وكذلك له أن يستثني نفعه من ديار الكفار عن ملك المسلمين، ويعينه لبعضهم، فيصير ملكا له، ويكون سبب الملك تسليم الإمام أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالتسليم، وقد نقل أمثال ذلك من التخصيصات قبل الاستيلاء، وليس ذلك لغيره من الأئمة، فإنه كان -صلى الله عليه وسلم- مطلعا بالوحي على ما سيملك في المستقبل، وعلى وجه المصلحة في التخصيص والاستثناء، وغيره لا يطلع عليه .

وأما قول من قال: لا يصح إقطاعه؛ لأنه قبل الملك فهو كفر محض؛ إذ يقال له: هل حل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعله، أو كان ظالما بتصرفه قبل الملك، فإن جعله ظالما فقد كفر، وإن قال: حل له ذلك، ولكن الملك لا يحصل به فيقال، وهل علم أن الملك لا يحصل به أم لا؟ فإن قال: إنه لم يعلم فقد جهله بحكم الشرع، وهذا كفر، وإن قال: علم ذلك، فيقال: لا يبقى لإقدامه عليه مع العلم ببطلانه إلا تطييب قلب تميم الداري بما لا حاصل له ولا طائل تحته، وهو محض الخداع والتلبيس، ومن نسبه إلى شيء من ذلك فهو كافر .

وأما قوله: إن القبض لم يتصل به فهو باطل من وجهين:

أحدهما: أن أفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حجة، تتعرف بها شروط الأفعال، فأما أن يتحكم عليها بالشرط فلا، ففعله يبين أن ذلك ليس بشرط، وهو كما لو نكح بغير ولي ولا شهود، أو يبين به أن ذلك خاصيته، ونكاح تسع نسوة من هذا القبيل، بل لو أقطع مثلا زوجة مسلم لمسلم آخر لوجب أن يقال: قد أوحي إليه أنها حرمت على زوجها وحلت للآخر، فإن فعله -صلى الله عليه وسلم- نص في الجواز .

والثاني: إن الإقطاع ليس بتمليك في الحال حتى يشترط اتصاله بالقبض، بل هو كما لو أقطع الإمام بعض أراضي الموات ليحييه المقطع فإنه لا يملكه إلا بالإحياء، وفي الحال لا يملكه، والقبض ليس شرطا في صحة هذا التخصيص، وأما ذكر الحد فليس شرطا للصحة لا سيما في الأمور السلطانية، وإنما يشترط للتسليم وللإمام عند التسليم أن يعول فيه على الاشتهار، وله أن يسامح فيما يقع منه في محل الاشتباه، فإن مبنى هذه الأمور على المساهلات بخلاف التصرفات الجزئية. والله أعلم، كتبه الغزالي .

وسئل: ما قوله -دام علوه- فيمن له إدرار من سلطان العصر أتقبل شهادته أم لا؟ فإن لم تقبل فما حكم القضاة الذين لهم إدرار من السلطان أمنعزلون أم لا؟

الجواب وبالله التوفيق: إدرار السلطان منقسم إلى ما هو حلال كالجزية والفيء، فأخذ ذلك لا يوجب الفسق إن كان الآخذ ممن تقتضي مصلحة بوجه من الوجوه أن يصرف إليه، ومهما كان من مظنة المصلحة، واتصل به اجتهاد السلطان فلا يفسق، فأما الذي ليس بفقير ولا مرتب لعمل ولا مصلحة للناس، مثل كونه فقيها أو طبيبا أو معلما أو غيره، بل هو بطال في نفسه عن هذه الأشغال، غير مفتقر أيضا إليه، فأخذ ذلك لا رخصة فيه، وآخذه فاسق لا تقبل شهادته .

وأما الفقيه ومن يجري في مجراه فهو على الجملة من قبيل من يصرف إليه مال المصالح .

وإن كتب له إدرار على ملك للسلطان أحياه أو اشتراه لم يفسق بأخذه، وإن لم يكن من أهل مال المصالح، فإن ذلك ينزع. وما يثبت عن ملك اشتراه السلطان في الذمة هو ملكه وإن كان الثمن الذي فيه لم يكن من حله فالثمن في ذمته بعد، والثابت من الأرض ملكه، وإنما اجتنابه من الورع .

وإن كتب الإدرار على الخزانة وهي جامعة للخراج المأخوذ من المسلمين وهو حرام، وللجزية والفيء والمواريث وهي حلال [ ص: 17 ] وللهدايا وهي في محل الاجتهاد -أعني هدايا الملوك- فإن كان الغالب على مال ذلك السلطان جهات الحل لم يفسق بأخذه، وكذا إذا لم يكن جانب التحريم غالبا إلا أن يعلم عين ما يأخذه على الخصوص من جهة محرمة وإن كان الغالب الحرام، ولكن احتمل أن يكون ما يأخذه قد وقع من جملة ما يحل، فهذا أصل قد عارضه غالب؛ إذ الأصل في الأموال الحل، وفي الأيدي الدلالة على الملك، وقد عارضه الغالب فهو قريب من قول الشافعي -رضي الله عنه- في تعارض الأصل والغالب في النجاسات كطين الشوارع وغيره، ولكن لما توضأ عمر -رضي الله عنه- من ماء في جرة نصرانية، والغالب النجاسة، ثم كانوا إذا رأوا احتمال التحريم في المأكول إلى هذا الحد يتفحصون عنه دل على أن الأمر في الحل والحرمة أضيق منه في الطهارة والنجاسة، فهذا في محل الاجتهاد، والرأي فيه إلى القاضي، والأولى أن لا ترد شهادته إن كان يأخذ مثل ذلك عن حاجة، وأن ترد شهادته إن كان يأخذه مع الاستغناء .

وإذا أخذ القاضي من الإدرار ما قضينا بالتفسيق فيه، فيتعين على السلطان عزله، ولكن لا يحكم بانعزاله لأجل المصلحة؛ فإن استمرار الولاية لو اشترط فيه استمرار العصمة من موجبات الفسق مع أن الشهوات غالبة، والشيطان بالمرصاد لأدى ذلك إلى أن لا يدوم قضاء قاض إلا ساعة قريبة، فنقضي باطراد الولاية، ووجب العزل والاستبدال مهما ظهر ذلك للسلطان. والله أعلم، كتبه الغزالي .

وسئل ما قوله -دام علوه- في المنتصبين على أبواب السلاطين والوزراء من أرباب الحشمة والجاه من العلماء وغيرهم لقبض إدرارات الناس وتسويفاتهم، ودفع ظلاماتهم، وقضاء حقوقهم؛ طمعا في مال صاحب الحق إذا قضى حقه، أيحل له ذلك المال أو لا؟ وكيف يحل له وربما لم تصدر منه إلا كلمة واحدة يشفع بها إلى السلطان فقط، فهذا مقابلة الجاه والحشمة بالمال فما طريق حله له؟ وما معنى الرشوة المحرمة في الشرع؟ وإن لم يحل لهم هذا أصلا فربما أفضى ذلك إلى حرج؛ إذ لا غنية بالناس عن ذلك، وهل يفترق الحال بين أن يتعب هذا الرجل في قبص الإدرار في تكرير المراجعة والمطالبة وتكثير التقاضي والإلحاح، أو لا يتعب بل يتكلم على سبيل الشفاعة؟

الجواب وبالله التوفيق: إنه إن كان السعي الملتمس منه حراما لم يحل أخذ المال عليه، وإن كان فرض عين عليه مثل إقامة الشهادة على من ظلمه أو ما يجري مجراه لم يحل أخذ المال، وإن كان من قبيل فرض الكفايات في دفع الظلامات أو كان مباحا نظر، فإن كان فيه تعب بحيث لو كان الفعل معلوما لصح الاستئجار عليه جاز أخذ المال عليه بطريق الجعالة، وإن لم يكن فيه تعب نظر، فإن لم يكن فيه ابتذال حشمة وجاه لم يحل أخذ المال، فإن مقابلة ما لا يتقوم بالمال غير جائز، وإن كان المتبادل يحتاج إليه حتى لو اشترى حبة حنطة ليجعلها في فخ طائر حيث لا يجد غيرها لم يجز .

وصورة هذا أن لا يلتمس منه إلا وضع القصة بين يدي السلطان، أو أن يقول للبواب: لا تغلق الباب دونه، فهذه الكلمة الخفيفة لا يجوز أخذ جعل عليها، وإن كان فيه تبذل من حيث الحشمة ولكن الفعل قليل في نفسه فهذا في محل النظر، والأشبه المنع من مشارطة الجعل عليه، فإن تجويزه لا مستند له إلا تخلية الناس، والتراضي في المعاوضات، وبذل المال في مقابلة ما فيه عوض، ولا خلاف في أنه لا يجوز مقابلة المال بإسقاط حق الشفعة، وخيار الرد، وأمور أخر فيها إعراض، فهذا يدل على أن المال إنما يشترط في مقابلة بضع أو مال أو عمل متقوم، والجاه ليس من هذا القبيل .

وأما مسيس الحاجة إليه فالطريق فيه ترك المشارطة للجعل وهو العادة، ولا يمتنع على ذي الجاه أن يقبل هدية من المحتاج بطريق الهبة، وإن كان يعلم أنه لم يبذله إلا طمعا في معونة، ولكن قوله عليه السلام: "تهادوا تحابوا" وقوله تعالى: فحيوا بأحسن منها أو ردوها يوجب الرخصة؛ فإن المهدي يستجلب محبة المهدى إليه، وبواسطة المحبة يستحثه على بذل الجاه في مقابلته، فهذه هبة تقتضي ثوابا بقرينة الحال .

والصحيح أن ذلك جائز، وأن الثواب واجب في مثل هذه الصورة، فلربما يهدي الفقير إلى ذي الجاه طمعا في أن يمكنه من أن يمشي بين يدي فرسه في معرض الغلمان؛ ليكون له بالانتساب إليه جاه، فيحصل لذي الجاه بخدمته زيادة جاه مع المال، ولا يمكن أن يجعل ذلك معاوضة، ولا يمنع التوصل إلى مثل ذلك بالهدية، بل أقول: يحل للقاضي أن يقبل الهدية وإن كانت لا تهدى إليه لو لم يكن قاضيا، ولكن إنما يجوز إذا علم أن المهدي يبغي مودته وحشمته، وعنايته في [ ص: 18 ] أمور لا تحرم عليه، ولا تجب وجوب عين بحكم القضاء .

وإنما الرشوة المحرمة التي يبذلها صاحبها جعلا على حكم بالحق واجب، أو ميل بالظلم محرم؛ ولذلك قال عمر -رضي الله عنه- لابن مسعود، وقد ولاه بلدا: أجب الداعي، ولا تقبل الهدية وليس بحرام، ولكني أخشى عليك القيل والقال .

وإذا منعنا المشارطة بطريق الجعالة في مثل هذا فيتعدى النظر في مثل بذل الجعل على فعل لا تعب فيه، ولكنه عظيم الجدوى بسبب علم صاحبه، فرب سيف ومنواله معوج تتضاعف قيمته بدقة واحدة من بصير بمحل الدق .

والأشبه أن انضمام العلم إلى الفعل القليل لا يكون كانضمام الجاه، وإن أخذ الجعل على هذا يجوز؛ فإن هذه صناعة مكتسب لكسب المال، ودون هذا ما لو علم الطبيب دواء ولم يذكره إلا بجعل، فأخذ المال على مجرد التنبيه عليه من غير عمل باليد فيه نظر، وهو بين مسألة السيف ومسألة بذل الجاه في كلمة. والله أعلم، كتبه الغزالي.

نقلت هذه الفتاوى أجمعها من خط الإمام أبي الفضل محمد بن محمد بن الفضل بن المظفر العبدي البحراني، وقال: فرغت من نسخه في تاسع محرم سنة 564 بدمشق .

التالي السابق


الخدمات العلمية