الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
من لم يتغن بالقرآن وقول الله تعالى : ( أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ) [ العنكبوت : 51 ]

حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، حدثنا عقيل ، عن ابن شهاب قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه كان يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم يأذن الله لشيء ، ما أذن لنبي أن يتغنى بالقرآن ، وقال صاحب له : يريد : يجهر به . فرد من هذا الوجه . ثم رواه عن علي بن عبد الله بن المديني ، عن سفيان بن عيينة ، عن الزهري به . قال سفيان : تفسيره : يستغني به ، وقد أخرجه مسلم والنسائي من حديث سفيان بن عيينة ومعناه : أن الله ما استمع لشيء كاستماعه لقراءة نبي يجهر بقراءته ويحسنها ، وذلك أنه يجتمع في قراءة الأنبياء طيب الصوت لكمال خلقهم وتمام الخشية ، وذلك هو الغاية في ذلك .

وهو - سبحانه وتعالى - يسمع أصوات العباد كلهم برهم وفاجرهم ، كما قالت عائشة ، رضي الله عنها : سبحان الله الذي وسع سمعه الأصوات . ولكن استماعه لقراءة عباده المؤمنين أعظم ، كما قال تعالى : ( وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه ) الآية [ يونس : 61 ] ، ثم استماعه لقراءة أنبيائه أبلغ كما دل عليه هذا الحديث العظيم ، ومنهم من فسر الأذن هاهنا بالأمر ، والأول أولى لقوله : ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي أن يتغنى بالقرآن أي : يجهر به ، والأذن : الاستماع ؛ لدلالة السياق عليه ، وكما قال تعالى : ( إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت وأذنت لربها وحقت ) [ الانشقاق : 1 - 5 ] أي : وحق لها أن تستمع أمره وتطيعه ، فالأذن هو الاستماع ؛ ولهذا جاء في حديث رواه ابن ماجه بسند جيد عن فضالة بن عبيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن [ يجهر به ] من صاحب القينة إلى قينته .

وقال سفيان بن عيينة : إن المراد بالتغني : يستغني به ، فإن أراد أنه يستغني عن الدنيا ، وهو الظاهر من كلامه الذي تابعه عليه أبو عبيد القاسم بن سلام وغيره ، فخلاف الظاهر من مراد الحديث ؛ لأنه قد فسره بعض رواته بالجهر ، وهو تحسين القراءة والتحزين بها . [ ص: 60 ]

قال حرملة : سمعت ابن عيينة يقول : معناه : يستغني به ، فقال لي الشافعي : ليس هو هكذا ، ولو كان هكذا لكان يتغانى به ، وإنما هو يتحزن ويترنم به ، ثم قال حرملة : وسمعت ابن وهب يقول : يترنم به ، وهكذا نقل المزني والربيع عن الشافعي ، رحمه الله .

وعلى هذا فتصدير البخاري الباب بقوله تعالى : ( أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ) [ العنكبوت : 51 ] ، فيه نظر ؛ لأن هذه الآية الكريمة ذكرت ردا على الذين سألوا عن آيات تدل على صدقه ، حيث قال : ( وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ) الآية [ العنكبوت : 50 ، 51 ] . ومعنى ذلك : أولم يكفهم آية دالة على صدقك إنزالنا القرآن عليك وأنت رجل أميوما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ) [ العنكبوت : 48 ] أي : وقد جئت فيه بخبر الأولين والآخرين فأين هذا من التغني بالقرآن وهو تحسين الصوت به أو الاستغناء به عما عداه من أمور الدنيا ، فعلى كل تقدير ، تصدير الباب بهذه الآية الكريمة فيه نظر .

التالي السابق


الخدمات العلمية