الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ) أي : وما جعلنا القبلة فيما مضى هي الجهة التي كنت عليها إلى اليوم ثم أمرناك بالتحول عنها إلى الكعبة إلا ليتبين لك وللمؤمنين الثابت على إيمانه ممن لا ثبات له ، فتعلموا المتبع للرسول من المنقلب على عقبيه ، برجوعه إلى الكفر الذي كان عليه ، أو إلا ليكون علمنا الغيبي بحقيقة أمرهما ومآلهما علم شهادة بوقوع متعلقه ، وهو الذي يترتب عليه الجزاء ; أي : إن الله تعالى يختبر المؤمنين بما يظهر به صدق الصادقين ، وريب المرتابين ، وعاقبة المنافقين ; ليرتب عليه الجزاء ، وإنما يثبت من فقه في الشيء فعرف سره وحكمته ، وأما المقلد الآخذ بالظواهر من غير فقه ولا عرفان ، والمنافق غير المطمئن بالإيمان فلا يثبتان في مهاب عواصف الشكوك والشبهات .

                          وقال مفسرنا ( الجلال ) : وما صيرنا القبلة لك الآن الجهة التي كنت عليها أولا وهي الكعبة إلخ ، وهو مبني على قول الأقلين : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي أولا إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى بيت المقدس ، فيكون النسخ قد حصل مرتين ، والأكثرون على أن المراد بالقبلة التي كان عليها بيت المقدس .

                          قال بعض المحققين : إن هذه الجملة من قبيل ( وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ) ( 17 : 60 ) فالرؤيا لم تكن بنفسها فتنة وإنما افتتن الناس إذ أخبروا بها ولم يفقهوا المراد منها ، كذلك القبلة ، ليس في جعل جهة كذا قبلة فتنة واختبار للناس ، وإنما الفتنة فيما ترتب على ذلك من حيث كونه صرفا عن قبلة إلى غيرها . فالسفهاء والجهال الذين لا يفقهون ينكرون هذا التحويل ويرونه أمرا إدا ، والذين هداهم الله إلى فقه ذلك يرونه أمرا حكيما جدا ; ولذلك قال تعالى : ( وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ) فمنحهم الاعتدال في الفكر ، والإدراك في الميل والرغبة . قاله الأستاذ الإمام .

                          ثم قال : ما مثاله - موضحا قوله تعالى : ( لنعلم ) - معهود في القرآن كثيرا ، ومثله : ( ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ) ( 72 : 28 ) وقوله : ( ليعلم الله من يخافه ) ( 5 : 94 ) والعقل والنقل متفقان على أن علمه تعالى قديم لا يتجدد ، وللمفسرين في هذه الألفاظ أقوال ذكر الأستاذ الإمام أظهرها ، فقال ما مثاله : جرت عادة العرب في لغتها أن تنسب إلى الرئيس والكبير ما يحدث بأمره [ ص: 8 ] وتدبيره ، يقولون : فتح الأمير البلد وقاتل الجيش ، وكثيرا ما يقولون هذا والأمير ليس واحدا من العاملين ، فهو أسلوب معهود إذا أريد إسناد الفعل إلى الجمهور أسندوه إلى المقدم فيهم ، ولما كان الله تعالى ولي الذين آمنوا وخاطبهم خطاب السيد ; صح بحسب هذا الأسلوب العربي أن يذكر الفعل بصيغة الجمع التي تشمل المتكلم وغيره ، وإن كان غيره هو المقصود بالفعل ، فمعنى ( إلا لنعلم ) إلا ليعلم عبادي المؤمنون بإعلامي إياهم . وقد علم المؤمنون في هذه الفتنة من هو الثابت على اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن هو المنافق الذي قلبته ريح الشبهة على عقبيه ، وكان المنافقون مع المؤمنين بحيث لا يماز أحدهم من الآخر ; لقيامهم جميعا بأداء الأعمال الظاهرة المطلوبة . وهكذا كان سبحانه وتعالى يمحص ما في القلوب بما يبتلي به الناس من الفتن ( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) ( 29 : 2 ، 3 ) وعلى هذا الأسلوب جاء ما روي في الحديث القدسي : ( ( يا عبدي مرضت فلم تعدني ، وجعت فلم تطعمني ، وعطشت فلم تسقني ) ) خرجوه على أن المراد مرض عبادي الفقراء الذين هم عيال الله فلم تعدهم إلخ .

                          نعم إن الرواية غير صحيحة ولكن لم يفهم أحد منها أنها على ظاهرها ; لقطع العقل بأن هذا محال ، ولقوله تعالى : ( ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ) ( 51 : 57 ) وقالت العرب : إني جائع في بطن غيري ، وعريان في ظهر غيري ، ويدخل في هذا الأسلوب أيضا مثل قوله تعالى : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ) أي : يعطي عباده المحتاجين ، والله يكافئه عنهم إذ كانوا عاجزين .

                          وثم وجه آخر في تفسير ( لنعلم ) وهو أن المراد بالعلم في مثل هذا علم الظهور والوقوع ، وذلك أن الله تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها أنها ستقع لا أنها واقعة ، ويعلمها بعد وقوعها أنها وقعت ، والجزاء يترتب على ما وقع بالفعل ، فقوله هنا : ( لنعلم ) يراد الثاني ; أي : لنعلم علم وقوع ووجود يترتب عليه الثواب والعقاب ، وليس معناه أنه تجدد له علم لم يكن ، وإنما التجدد في المعلوم لا في نفس العلم ; أي : إن المعلوم لم يكن موجودا ثم وجد وظهر ، كأنه قال : وما جعلنا القبلة جهة بيت المقدس إلا لنحولها ونمتحن المؤمنين بالتحويل ليظهر ما ثبت في العلم القديم من اتباع بعض الناس للرسول واستقامتهم على هدايته ، وانقلاب بعضهم على عقبيه وإظهاره ما أكنه في نفسه من الريب ، وبذلك يمتاز المهتدون من الضالين ، وتقوم الحجة للمؤمنين على الكافرين ، ومعنى الانقلاب على العقبين : هو الانصراف عن الشيء بالرجوع إلى الوراء وهو طريق العقبين ، فالمنقلبون قد خرجوا من عداد المؤمنين وعادوا إلى [ ص: 9 ] ما كانوا عليه من الكفر . ويقال : رجع على عقبيه ونكص على عقبيه ، وأبلغها : انقلب على عقبيه لما فيها من الإشعار بأنه رجع عن خير إلى شر ، أو من سوء إلى أسوأ .

                          قال الأستاذ الإمام : ومن قبيل استعمال العلم في متعلقه وما يصدق عليه قوله تعالى : ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ) ( 18 : 109 ) الآية ، وقوله : ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) ( 31 : 27 ) فالمراد من الكلمات هنا : الموجودات كلها ، عبر عنها بذلك ; لأن كل موجود منها وجد بكلمة الله ( كن ) ا هـ .

                          أقول : والمختار عندي التعبير عن علمه تعالى بالشيء قبل وجوده بعلم الغيب ، وبعد وجوده بعلم الشهادة كما قلت آنفا ، وأن كلمات الله في الآيتين الأخيرتين كلمات التكوين أنفسها لا متعلقاتها التي هي الموجودات ، فعلم الله قسمان : غيب وشهادة ، وكلماته قسمان : تشريع وتكوين .

                          ثم قال جل شأنه : ( وإن كانت لكبيرة ) أي : وإن القبلة أو قصتها في نسخها والتحول عنها لكبيرة الشأن شديدة الوقع فيما كان من أمر الناس ، أو ما كانت إلا كبيرة يشق التحول عنها ( إلا على الذين هدى الله ) أي : هداهم إلى المعرفة به والعلم بحكم شرعه ، فعقلوا أن التعبد بها إنما يكون بطاعة الله بها لا بسر في ذاتها أو مكانها ، وأن حكمتها اجتماع الأمة عليها الذي هو من أسباب اتحادهم وجمع كلمتهم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية