الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 206 ] مسألة: في تفسير استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين وغلبة الرجال [ ص: 208 ] مسألة في تفسير استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين وغلبة الرجال».

أجاب شيخ الإسلام رضي الله عنه:

الحمد لله، النبي صلى الله عليه وسلم جمع في هذا الحديث بين أصناف الشر التي يستعاذ منها في أحوال العبد، كل اثنين من صنف; فالهم والحزن من صنف، والعجز والكسل من صنف، والجبن والبخل من صنف، وضلع الدين وغلبة الرجال من صنف.

* فأول ذلك: «الهم والحزن»، فالهم يتعلق بالمستقبل، مثل أمور يحذر من وقوعها، فيهتم لأجلها، أو يرجو حصولها، فيهتم أن لا تحصل. والحزن يتعلق بالماضي والحاضر، مثل أمور كان يكرهها، فيحزن لحصولها، أو كان يطلبها، ففاتت، فيحزن لفواتها، كما قال تعالى: لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم [الحديد: 23].

* و«العجز والكسل» يتعلقان بالفعل الذي ينبغي له فعله، فتارة يعجز عنه، وتارة لا يكون عاجزا، لكن يحصل له كسل وفتور في همته.

* و«البخل والجبن» قرينان، فالبخيل الذي منع معروفه خوفا على ماله، والجبان الذي لا يدفع الشر خوفا على نفسه من عدوه. فالأول يخاف [ ص: 210 ] زوال النافع، والثاني يخاف حصول الضار.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «شر ما في المرء شح هالع، وجبن خالع»، وكلاهما يكون من ضعف النفس وهلعها.

* و«ضلع الدين وغلبة الرجال» من جنس واحد; فإن المقهور تارة يقهر بحق، وهو المغلوب، وهو الذي ضلعه الدين، وتارة بباطل، كرجال اجتمعوا عليه فغلبوه.

وهذان كلاهما عاجز مقهور، الأول عاجز مقهور بحق غلبه، عليه أن يؤديه، وهو لا يقدر، والثاني هو عاجز مقهور برجال يعارضونه ويغلبونه حتى يمنعوه من مصالحه وأشغاله.

وقد رتبه النبي صلى الله عليه وسلم ترتيبا محكما:

فالهم والحزن متعلقان بالمصائب، مثل فوات مطلوب وحصول مكروه.

والعجز والكسل متعلقان بالأفعال التي يؤثرها، وهي نافعة له، فإذا لم يفعلها حصل له الضرر، ويكون تركها لعجز أو كسل. [ ص: 211 ]

وهذه الأربعة تتعلق به في نفسه، فمحلها نفس الإنسان.

وأما البخل والجبن، وضلع الدين وغلبة الرجال، فإنها تتعلق بأمور منفصلة عنه، الأولان يتعلقان بإرادته للأمور المتصلة، والآخران يتعلقان بقدرته على الأمور المنفصلة.

كما أن الأربعة الأول: الأولان يتعلقان بالمحبوب والمكروه، والآخران يتعلقان بالمقدور عليه والمعجوز عنه.

فالبخيل الذي لا يريد أن يبذل ما ينفع الناس; لعدم إرادته الإحسان إليهم، أو لخوفه من إخراج النافع منه، أو لبغضه للخير وحسده للناس.

والجبان الذي لا يريد دفع المضرة; خوفا من حصول ما يضره، وزوال ما ينفعه، فيقع في أعظم الضررين خوفا من أدناهما، إما جهلا بحقيقة ما ينفعه ويضره، وإما ضعف نفس بهلع يخلع قلبه.

والجبن والبخل متعلقان بما في النفس من إرادة وكراهة، وقوة وضعف.

وأما ضلع الدين وغلبة الرجال فكلاهما هو مما يكون في المرء مقهورا بغيره، قد عجزته الأمور المنفصلة عنه، ليس من عجز حصل في نفسه ابتداء، [ ص: 212 ] فالدين: مطالبة الغرماء به مع عجزه عن الوفاء له، وقهره: الرجال الغالبون يعجزون القادر ويمنعونه ويقهرونه.

فهذه الأمور التي استعاذ منها النبي صلى الله عليه وسلم فيها من الحكم الجوامع التي تجمع أنواع الشر المستعاذ منه، المتعلقة بنفس الإنسان، وأعماله الباطنة والظاهرة - ما هو مصدق لقوله صلى الله عليه وسلم «أوتيت جوامع الكلم»، والله أعلم.

تمت، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية