الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
6055 - وعن المسور بن مخرمة - رضي الله عنه - قال : لما طعن عمر جعل يألم ، فقال له ابن عباس وكأنه يجزعه : يا أمير المؤمنين ، ولا كل ذلك ؟ ، لقد صحبت رسول الله ، فأحسنت صحبته ، ثم فارقك وهو عنك راض ، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته ، ثم فارقك وهو عنك راض ، ثم صحبت المسلمين فأحسنت صحبتهم ، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون ، قال : أما ما ذكرت من صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضاه فإنما ذلك من من الله من به علي ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه ، فإنما ذلك من من الله من به علي . وأما ما ترى من جزعي ، فهو من أجلك ومن أجل أصحابك ، والله لو أن لي طلاع الأرض ذهبا لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه . رواه البخاري .

التالي السابق


6055 - ( وعن المسور ) : بكسر فسكون ففتح ( ابن مخرمة ) : بفتح فسكون خاء معجمة ففتح راء ، هو ابن أخت عبد الرحمن بن عوف ، ولد بمكة بعد الهجرة بسنتين ، وقدم به إلى المدينة في ذي الحجة سنة ثمان ، وقبض النبي - صلى الله عليه وسلم - وله ثماني سنين وسمع منه وحفظ عنه ، وكان فقيها من أهل الفضل والدين ، وتقدمت بقية ترجمته . ( قال : لما طعن عمر ) : بصيغة المجهول أي طعنه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة بالمدينة يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين ( جعل ) أي : طفق عمر ( يألم ) أي : يظهر أثر ألمه بالأنين ونحوه ( فقال له ابن عباس وكأنه ) أي : ابن عباس ( يجزعه ) : بتشديد الزاي أي ينسبه إلى الجزع ويلومه عليه ، ويقول له ما يسليه بما يزيل عنه الجزع نحو قوله تعالى : فزع عن قلوبهم أي أزيل عنهم الفزع ، والجملة معترضة بين القائل ومقوله : ( يا أمير المؤمنين : ولا كل ذلك ) ؟ بالرفع وفي نسخة بالنصب ، والمعنى لا تبالغ فيما أنت فيه من الجزع . قال ميرك وفي نسخة : لئن كان ذلك كذا وقع عند أكثر رواة البخاري ، والذي في الأصل رواية الكشمهني ، ولبعضهم : ولا كان ذلك وكأنه دعاء أي لا يكون ما تخافه ، أو لا يكون الموت بتلك الطعنة ( لقد صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأحسنت صحبته ، ثم فارقك وهو عنك راض ) ، أي لقوله : ( لو كان بعدي نبي لكان عمر ) . ( ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته ، ثم فارقك وهو عنك راض ، أي حيث جعلك أمير المؤمنين ( ثم صحبت المسلمين ) أي : أيام خلافتك ( فأحسنت صحبتهم ) ، أي بإظهار العدالة وإتقان السياسة ( ولئن فارقتهم ) أي : في هذه القضية ( لتفارقنهم ) : وفي نسخة لفارقتهم ( وهم عنك راضون ) ، أي وهذا كله يدل على أن الله عنك راض وأنت راض عنه فأنت مبشر بقوله تعالى : يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية والموت تحفة المؤمن حيث يكون سببا للقاء المولى في المقام الأعلى . ( قال ) أي : عمر ( أما ما ذكرت من صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضاه فإنما ذلك من ) : بفتح ميم وتشديد نون أي : منة عظيمة ( من الله من به علي ) أي : تفضل علي به من غير كسب بل بجذبة منه ، فلا أنكر كرمه ، بل أشكره وأحمده . ( وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه ، إنما ذلك من من الله من به علي ) . أي حيث وفقني على تقديمه ومساعدته في تقويمه ، ولعل إعراضه عن رضا الناس للإشعار بأنه لا اعتبار لهم ، وإنما المدار على رضا الله كما قال تعالى : والله ورسوله أحق أن يرضوه وللإيماء أن رضاهم أيضا من أثر رضا الله ورسوله ، ومن جملة ما من الله به عليه وهداه الله إليه ( وأما ما ترى من جزعي ) ، أي فزعي المتوهم أنه من أجل موتي ( فهو من أجلك ومن أجل أصحابك ) : عطف بإعادة الجار ، أي من جهة أني أخاف عليكم من وقوع الفتن بينكم لما كان كالباب يسد المحن ، ومع هذا كله أخاف أيضا على نفسي ، ولا آمن من عذاب ربي ، لأنه ( والله لو أن لي طلاع الأرض ) : بكسر أوله أي ما يملؤها ( ذهبا ) : حتى يطلع ويسيل ( لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه ) . أي الله أو عذابه ، وإنما قال ذلك لغلبة الخوف الذي وقع له في ذلك الوقت من خشية التقصير فيما يجب من حقوق الله ، أو من الفتنة بمدحهم ، كذا في " فتح الباري " .

وقال الطيبي : كأنه - رضي الله عنه - رجح جانب الخوف على الرجاء لما أشعر من فتن تقع بعده في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجزع جزعا عليهم وترحما لهم ، ومن استغناء الله تعالى عن العالمين كما قال عيسى - عليه السلام - : إن تعذبهم فإنهم عبادك وكان جانب الخوف عليه غالبا ، فاستمر على ذلك هضما لنفسه وانكسارا ، ولذلك نسب ما حصل له من الفضيلة إلى منة الله تعالى وإفضاله ، وفي " الاستيعاب " : إن عمر - رضي الله عنه - حين احتضر قال ورأسه في حجر ابنه عبد الله : ظلوم لنفسي غير أني مسلم أصلي صلاتي كلها وأصوم . قال المؤلف : ودفن يوم الأحد عاشر محرم سنة أربع وعشرين ، وله من العمر ثلاث وستون ، وهو أصح ما قيل في عمره ، وكانت خلافته عشر سنين ونصفا ، وصلى عليه صهيب ، وروى عنه أبو بكر وباقي العشرة وخلق كثير من الصحابة والتابعين ، رضوان الله عليهم أجمعين . ( رواه البخاري ) .

[ ص: 3909 ] وفي " الرياض " : من جملة كراماته ومكاشفاته ; ما روي عن عمرو بن الحارث قال : بينما عمر يخطب يوم الجمعة إذ ترك الخطبة ونادى : يا سارية الجبل مرتين أو ثلاثا . ثم أقبل على خطبته فقال ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه لمجنون ترك خطبته ونادى : يا سارية الجبل ، فدخل عليه عبد الرحمن بن عوف ، وكان ينبسط عليه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، تجعل للناس عليك مقالا ؛ بينما أنت في خطبتك إذ ناديت يا سارية الجبل ، أي شيء هذا ؟ فقال : والله ما ملكت ذلك حين رأيت سارية وأصحابه يقاتلون عند جبل يؤتون منه من بين أيديهم ومن خلفهم ، فلم أملك أن قلت : يا سارية الجبل ليلحقوا بالجبل ، فلم يمض أيام حتى جاء رسول سارية بكتابه أن القوم لقونا يوم الجمعة فقاتلناهم من حين صلينا الصبح إلى أن حضرت الجمعة ودر حاجب الشمس ، فسمعنا صوت مناد ينادي : الجبل مرتين ، فلحقنا بالجبل فلم نزل قاهرين لعدونا حتى هزمهم الله تعالى .

ويروى : أن مصر لما فتحت أتى أهلها عمرو بن العاص وقالوا له : إن هذا النيل يحتاج في كل سنة إلى جارية بكر من أحسن الجواري فنلقيها فيه ، وإلا فلا يجري وتخرب البلاد وتقحط ، فبعث عمرو إلى أمير المؤمنين عمر يخبره بالخبر ، فبعث إليه عمر : الإسلام يجب ما قبله ، ثم بعث إليه بطاقة فيها : بسم الله الرحمن الرحيم ، إلى نيل مصر من عبد الله عمر بن الخطاب أما بعد ، فإن كنت تجري بأمر الله فاجر على اسم الله ، وأمره أن يلقيها في النيل ، فجرى في تلك الليلة ستة عشر ذراعا فزاد على كل سنة ستة أذرع . وفي رواية : فلما ألقي كتابه جرى ولم يعد يقف ، خرجها الملا في سيرته .

قلت : الأول : أخرجه البيهقي وأبو نعيم واللالكائي وابن الأعرابي والخطيب وابن مردويه عن نافع عن ابن عمر بإسناد حسن . والثاني : أخرجه أبو الشيخ في العظمة بسنده إلى قيس بن الحجاج عن جدته .

ولما دخل مسلم الخولاني المدينة من اليمن ، وكان الأسود بن قيس الذي ادعى النبوة في اليمن عرض عليه أن يشهد أنه رسول الله فأبى ، فقال : أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال : نعم . قال : فأمر بتأجيج نار عظيمة وألقى فيها أبو مسلم فلم يضره ، فأمر بنفيه من بلاده ، فقدم المدينة ، فلما دخل من باب المسجد قال عمر : هذا صاحبكم الذي زعم الأسود الكذاب أنه يحرقه فنجاه الله منها ، ولم يكن القوم ولا عمر سمعوا قضيته ولا رأوه ، ثم قام إليه واعتنقه . وقال : ألست عبد الله بن أيوب ؟ قال : بلى ، فبكى عمر ثم قال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - شبيها بإبراهيم الخليل - عليه السلام .

وروي أنه عس ليلة من الليالي فأتى امرأة وهي تقول لابنتها : قومي وامرئي اللبن . فقالت : لا تفعلين فإن أمير المؤمنين عمر نهى عن ذلك . قالت : ومن أين يدري ؟ فقالت : فإن لم يعلم هو فإن رب أمير المؤمنين يدري ذلك ، فلما أصبح عمر قال لابنه عاصم : اذهب إلى مكان كذا وكذا ، فإن هناك صبية فإن لم تكن مشغولة ، فتزوج بها لعل الله أن يرزقك منها نسمة مباركة ، فتزوج عاصم تلك البنية ، فولدت له أم عاصم بنت عاصم بن عمر ، فتزوجها عبد العزيز بن مروان ، فولدت له عمر بن عبد العزيز . خرجهما في " الفضائل " .

وروي عن عمر أنه أبصر أعرابيا نازلا من جبل فقال : هذا رجل مصاب بولده قد نظم فيه سبعة أبيات لو أشاء لأسمعتكم ، ثم قال : يا أعرابي من أين أقبلت ؟ فقال : من أعلى هذا الجبل . قال : وما صنعت فيه ؟ قال : أودعته وديعة لي . قال : وما وديعتك ؟ قال : بني لي هلك فدفنته فيه . قال : فأسمعنا من مرثيتك فيه . قال : ما يدريك يا أمير المؤمنين ، فوالله ما تفوهت بذلك ، وإنما حدثت به نفسي ثم أنشد :


يا غائبا ما يؤوب من سفر عاجله عند موته على صغره

يا قرة العين كنت لي أنسا
في طول ليلي نعم وفي قصره

ما تقع العين حيثما وقعت
في الحي إلا من على أثره

شربت كأسا أبوك شاربها
لا بد منه له على كبره

بشربها والأنام كلهم
من كان في بدوه وفي حضره

فالحمد لله لا شريك له
في حكمه كان ذا وفي قدره

قدر موتا على العباد فما
يقدر خلق يزيد في عمره



قال : فبكى حتى بل لحيته ، ثم قال : صدقت يا أعرابي .

[ ص: 3910 ] ومن كثرة اتباعه للسنة ، ما رواه أحمد عن عبد الله بن عباس قال : كان للعباس ميزاب على طريق عمر ، فلبس عمر ثيابه يوم الجمعة ، وقد كان ذبح للعباس فرخان ، فلما وافى الميزاب صب ماء بدم الفرخين ، فأصاب عمر فأمر عمر بقلعه ، ثم رجع فطرح ثيابه ولبس ثيابا غير ثيابه ، ثم جاء فصلى بالناس ، فأتاه العباس وقال : والله إنه للموضع الذي وضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عمر للعباس : وأنا أعزم عليك لما صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففعل ذلك العباس أخرجه . وهذه الاستقامة خير من ألف كرامة ، ومن ذلك أن نفقته في حجته كانت ستة عشر دينارا . ومع ذلك يقول : أسرفنا في هذا المال ، ولم يستظل إلا تحت كساء ، أو نطع ملقاة على شجرة .




الخدمات العلمية