الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

فأما قراءة القرآن وذكر الله تبارك وتعالى فيجوز للمحدث ؛ لحديث عائشة المتقدم ، ولأن ابن عباس أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه لما قام الليل قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة آل عمران قبل أن يتوضأ " . [ ص: 393 ] وقد روى ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من الخلاء فأتي بطعام ، فذكر له الوضوء ، فقال " ما أردت صلاة فأتوضأ " رواه أحمد ومسلم .

وفي رواية : " إنما أمرت بالوضوء إذا أقيمت الصلاة " رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي ، لكن يستحب له الوضوء كذلك لما روى المهاجر بن قنفذ أنه سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتوضأ ، فلم يرد عليه حتى فرغ من وضوئه فرد عليه وقال : " إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كرهت أن أذكر الله إلا على طهارة " رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه .

وعن أبي جهيم بن الحارث قال : أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل ، فلقيه رجل ، فسلم عليه ، فلم يرد عليه السلام حتى أقبل على الجدار فمسح وجهه ويديه ثم رد عليه السلام " متفق عليه .

وكذلك يستحب الوضوء لكل صلاة في المشهور من الروايتين ، وفي الأخرى لا فضل فيه كما لو توضأ مرارا ولم يصل بينهما ؛ ولأن الوضوء إنما يراد لرفع الحدث ، فإذا لم يكن محدثا لم يستحب له ، بخلاف الغسل ، فإنه [ ص: 394 ] يشرع للتنظيف ، والصحيح الأول ، ما روى أبو هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء ، ومع كل وضوء سواك " رواه أحمد بإسناد صحيح .

وعن أنس قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ عند كل صلاة " قيل له : فأنتم كيف كنتم تصنعون ؟ قال : كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث . رواه الجماعة إلا مسلما . وعن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات " رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ، وفيه لين . وكان عبد الله بن عمر " يتوضأ لكل صلاة طاهرا وغير طاهر " رواه أحمد وأبو داود . ولأن قوله : ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ) أمر لكل قائم طاهر أو غير طاهر ، لكن فسرت السنة أن الأمر في حق غير المحدث ليس للإيجاب ، فيبقى الندب ، ويستحب الوضوء لمن يريد المنام ؛ لما روى البراء بن عازب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن " متفق عليه .

[ ص: 395 ] فإن كان جنبا كان الاستحباب في حقه أوكد بحيث يكره له ترك الوضوء كراهة شديدة ، والمشهور أنه " يسن " له أن يغسل فرجه ويتوضأ ، وفي كلامه ظاهره وجوب ذلك ؛ لما روى ابن عمر أن عمر قال : يا رسول الله ، أينام أحدنا وهو جنب ؟ قال : " نعم إذا توضأ " رواه الجماعة . وعن أبي سلمة عن عائشة قالت : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن ينام وهو جنب غسل فرجه وتوضأ وضوءه للصلاة " رواه الجماعة إلا الترمذي . وأما ما رواه أبو إسحاق عن الأسود عن عائشة قالت : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام وهو جنب ولا يمس ماء " رواه الخمسة إلا النسائي - فقال أحمد : ليس بصحيح . وكذلك ضعفه يزيد بن هارون والترمذي وغيرهما ، وإن كان محفوظا ، معناه - والله أعلم - لا يمس ماء الاغتسال ، أرادت أن [ ص: 396 ] تبين أنه لم يكن يغتسل قبل النوم ، كما جاء عنها في رواية سعد بن هشام . والمرأة كالرجل في ذلك إذا أصابتها الجنابة ، وعنه : إنه لم يرد ذلك على النساء ورآه على الرجال ؛ لأن عائشة أخبرت عنه بالوضوء ولم تذكر أنها كانت تفعل ذلك ولا أنه أمرها ، مع اشتراكهما في الجنابة ، ولأن المرأة تمكث مدة حائضا لا يشرع لها وضوء ، فمكثها جنبا أخف ، وكذلك يستحب الوضوء للجنب إذا أراد أن يجامع ثانيا ، أو يأكل ، أو يشرب ؛ لما روى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ " رواه الجماعة إلا البخاري .

وروى إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان جنبا وأراد أن يأكل أو يشرب أو ينام توضأ وضوءه للصلاة " رواه أحمد وأبو داود والنسائي . وعن عمار بن ياسر " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص للجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أن يتوضأ وضوءه للصلاة " رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وقال : حديث [ ص: 397 ] حسن صحيح . وفي رواية لأحمد وأبي داود " أن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر بخير ، ولا المتضمخ بالزعفران ، ولا الجنب " .

ويكره له تركه هنا كتركه للنوم عند القاضي ، لحديث عمار هذا ، والمنصوص أنه لا يكره ، لكن يكفيه أن يغسل يديه وفمه للأكل ، وأما الجماع فلا يحتاج فيه إلى ماء ، ولو ترك غسل اليدين والفم عند الأكل والشرب لم يكره على ظاهر كلامه ؛ لما روى أبو سلمة عن عائشة قالت : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة ، وإذا أراد أن يأكل ويشرب يغسل يديه ثم يأكل ويشرب " رواه أحمد والنسائي ، وليس فيه غسل الفم ، فالظاهر أنه بلغ أحمد من وجه آخر . وعن الأسود عن عائشة قالت : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كانت له حاجة إلى أهله أتاهم ثم يعود ولا يمس ماء " رواه أحمد ، ومن أصحابنا من يجعل المسألة في الأكل والشرب على روايتين : إحداهما استحباب الوضوء ، والثانية : استحباب غسل اليدين والمضمضة ، والصحيح ما ذكرناه أن الوضوء كمال السنة ، وأن الاقتصار على غسل اليدين أدنى السنة . وأما المرأة فالمنصوص أنها كالرجل فيما يشرع لها عند الأكل والشرب من وضوء أو غسل اليد والفم ، وأما عند معاودة الرجل لها فالأشبه أنه كالنوم .

التالي السابق


الخدمات العلمية