الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب ذكر اختلاف الفقهاء فيمن جن رمضان كله أو بعضه : قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري : " إذا كان مجنونا في رمضان كله فلا قضاء عليه ، وإن أفاق في شيء منه قضاه كله " . وقال مالك بن أنس فيمن بلغ ، وهو مجنون مطيق [ ص: 229 ] فمكث سنين ثم أفاق : " فإنه يقضي صيام تلك السنين ولا يقضي الصلاة " . وقال عبيد الله بن الحسن في المعتوه يفيق وقد ترك الصلاة والصوم " فليس عليه قضاء ذلك " وقال في المجنون الذي يجن ثم يفيق أو الذي يصيبه المرة ثم يفيق : " أرى على هذا أن يقضي " .

وقال الشافعي في البويطي : " ومن جن في رمضان فلا قضاء عليه ، وإن صح في يوم من رمضان قبل أن تغيب الشمس كذلك لا قضاء عليه " . قال أبو بكر : قوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه يمنع وجوب القضاء على المجنون الذي لم يفق في شيء من الشهر ؛ إذ لم يكن شاهد الشهر ، وشهوده الشهر كونه مكلفا فيه ، وليس المجنون من أهل التكليف لقوله صلى الله عليه وسلم : رفع القلم عن ثلاث : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصغير حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق .

فإن قيل : إذا احتمل قوله فمن شهد منكم الشهر فليصمه شهوده بالإقامة وترك السفر دون ما ذكرته من شهوده بالتكليف ، فما الذي أوجب حمله على ما ادعيت دون ما ذكرنا من حال الإقامة ؟ قيل له : لما كان اللفظ محتملا للمعنيين وهما غير متنافيين بل جائز إرادتهما معا ، وكونهما شرطا في لزوم الصوم ، وجب حمله عليهما ؛ وهو كذلك عندنا ؛ لأنه لا يكون مكلفا بالصوم غير مرخص له في تركه إلا أن يكون مقيما من أهل التكليف .

ولا خلاف أن كونه من أهل التكليف شرط في صحة الخطاب به ، وإذا ثبت ذلك ، ولم يكن المجنون من أهل التكليف في الشهر لم يتوجه إليه الخطاب بالصوم ، ولم يلزمه القضاء ؛ ويدل عليه ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم : رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن الصبي حتى يحتلم ورفع القلم هو إسقاط التكليف عنه ويدل عليه أيضا أن الجنون معنى يستحق به الولاية عليه إذا دام به ، فكان بمنزلة الصغير إذا دام به الشهر كله في سقوط فرض الصوم .

ويفارق الإغماء هذا المعنى بعينه ؛ لأنه لا يستحق عليه الولاية بالإغماء إن طال ، وفارق المغمى عليه المجنون والصغير وأشبه الإغماء النوم في باب نفي ولاية غيره عليه من أجله .

فإن قيل : لا يصح خطاب المغمى عليه كما لا يصح خطاب المجنون والتكليف زائل عنهما جميعا ، فوجب أن لا يلزمه القضاء بالإغماء . قيل له : الإغماء وإن منع الخطاب بالصوم في حال وجوده فإن له أصلا آخر في إيجاب القضاء ، وهو قوله : ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وإطلاق اسم المريض على المغمى عليه جائز سائغ .

فوجب اعتبار عمومه في إيجاب القضاء عليه ، وإن لم يكن مخاطبا به حال الإغماء ؛ وأما المجنون فلا يتناوله اسم المريض [ ص: 230 ] على الإطلاق فلم يدخل فيمن أوجب الله عليه القضاء .

وأما من أفاق من جنونه في شيء من الشهر ، فإنما ألزموه القضاء بقوله : فمن شهد منكم الشهر فليصمه وهذا قد شهد الشهر ؛ إذ كان من أهل التكليف في جزء منه ؛ إذ لا يخلو قوله : فمن شهد منكم الشهر أن يكون المراد به شهود جميع الشهر أو شهود جزء منه ؛ وغير جائز أن يكون شرط لزوم الصوم شهود الشهر جميعه من وجهين :

أحدهما : تناقض اللفظ به ؛ وذلك لأنه لا يكون شاهدا لجميع الشهر إلا بعد مضيه كله ، ويستحيل أن يكون مضيه شرطا للزوم صومه كله ؛ لأن الماضي من الوقت يستحيل فعل الصوم فيه ، فعلمنا أنه لم يرد شهود الشهر جميعه .

والوجه الآخر : أنه لا خلاف أن من طرأ عليه شهر رمضان ، وهو من أهل التكليف أن عليه الصوم في أول يوم منه لشهوده جزءا من الشهر ، فثبت بذلك أن شرط تكليف صوم الشهر كونه من أهل التكليف في شيء منه .

فإن قيل : فواجب إذا كان ذلك على ما وصفت من أن المراد إدراك جزء من الشهر أن لا يلزمه إلا صوم الجزء الذي أدركه دون غيره ؛ إذ قد ثبت أن المراد شهود بعض الشهر شرطا للزوم الصوم ، فيكون تقديره : " فمن شهد بعض الشهر فليصم ذلك البعض " . قيل له : ليس ذلك على ما ظننت ، من قبل أنه لولا قيام الدلالة على أن شرط لزوم الصوم شهود بعض الشهر لكان الذي يقتضيه ظاهر اللفظ استغراق الشهر كله في شرط اللزوم .

فلما قامت الدلالة على أن المراد البعض دون الجميع في شرط اللزوم حملناه عليه ، وبقي حكم اللفظ في إيجاب الجميع ؛ إذ كان الشهر اسما لجميعه ، فكان تقديره : " فمن شهد منكم شيئا من الشهر فليصم جميعه " .

فإن قيل : فإذا أفاق ، وقد بقيت أيام من الشهر ، يلزمك أن لا توجب عليه قضاء ما مضى لاستحالة تكليفه صوم الماضي من الأيام ، وينبغي أن يكون الوجوب منصرفا إلى ما بقي من الشهر قيل له : إنما يلزمه قضاء الأيام الماضية لا صومها بعينها ، وجائز لزوم القضاء مع امتناع خطابه بالصوم فيما أمر به من القضاء ، ألا ترى أن الناسي والمغمى عليه والنائم كل واحد من هؤلاء يستحيل خطابه بفعل الصوم في هذه الأحوال ، ولم تكن استحالة تكليفهم فيها مانعة من لزوم القضاء ؟ وكذلك ناسي الصلاة والنائم عنها ، فإن الخطاب بفعل الصوم يتوجه إليه على معنيين :

أحدهما : فعله في وقت التكليف ، والآخر : قضاؤه في وقت غيره ، وإن لم يتوجه إليه الخطاب بفعله في حال الإغماء والنسيان والله أعلم .

[ ص: 231 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية