الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
الفصل الثاني : [ ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس ]

في بيان أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس وأن ما يظن مخالفته للقياس فأحد الأمرين لازم فيه ولا بد : إما أن يكون القياس فاسدا ، أو يكون ذلك الحكم لم يثبت بالنص كونه من الشرع .

وسألت شيخنا - قدس الله روحه - عما يقع في كلام كثير من الفقهاء من قولهم " هذا خلاف القياس " لما ثبت بالنص أو قول الصحابة أو بعضهم ، وربما كان مجمعا عليه ، كقولهم : طهارة الماء إذا وقعت فيه نجاسة [ على ] خلاف القياس ، وتطهير النجاسة على خلاف القياس ، والوضوء من لحوم الإبل ، والفطر بالحجامة ، والسلم ، والإجارة ، والحوالة ، والكتابة ، والمضاربة ، والمزارعة ، والمساقاة ، والقرض ، وصحة صوم الآكل الناسي ، والمضي في الحج الفاسد ، كل ذلك على خلاف القياس ، فهل ذلك صواب أم لا ؟ فقال : ليس في الشريعة ما يخالف القياس ، وأنا أذكر ما حصلته من جوابه بخطه ولفظه ، وما فتح الله - سبحانه - لي بيمن إرشاده ، وبركة تعليمه ، وحسن بيانه وتفهيمه [ ص: 290 ]

[ لفظ القياس مجمل ]

أصل هذا أن تعلم أن لفظ القياس لفظ مجمل ، يدخل فيه القياس الصحيح والفاسد ، والصحيح هو الذي وردت به الشريعة ، وهو الجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين ، فالأول قياس الطرد ، والثاني قياس العكس ، وهو من العدل الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم ، فالقياس الصحيح مثل أن تكون العلة التي علق بها الحكم في الأصل موجودة في الفرع من غير معارض في الفرع يمنع حكمها ، ومثل هذا القياس لا تأتي الشريعة بخلافه قط ، وكذلك القياس بإلغاء الفارق ، وهو : أن لا يكون بين الصورتين فرق مؤثر في الشرع ، فمثل هذا القياس أيضا لا تأتي الشريعة بخلافه ، وحيث جاءت الشريعة باختصاص بعض الأحكام بحكم يفارق به نظائره فلا بد أن يختص ذلك النوع بوصف يوجب اختصاصه بالحكم ويمنع مساواته لغيره ، لكن الوصف الذي اختص به ذلك النوع قد يظهر لبعض الناس وقد لا يظهر ، وليس من شرط القياس الصحيح أن يعلم صحته كل أحد .

فمن رأى شيئا من الشريعة مخالفا للقياس فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه ، ليس مخالفا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر ، وحيث علمنا أن النص ورد بخلاف قياس علمنا قطعا أنه قياس فاسد ، بمعنى أن صورة النص امتازت عن تلك الصور التي يظن أنها مثلها بوصف أوجب تخصيص الشارع لها بذلك الحكم ، فليس في الشريعة ما يخالف قياسا صحيحا ، ولكن يخالف القياس الفاسد ، وإن كان بعض الناس لا يعلم فساده ، ونحن نبين ذلك فيما ذكر في السؤال .

[ شبهة من ظن خلاف القياس وردها ]

فالذين قالوا : " المضاربة والمساقاة والمزارعة على خلاف القياس " ظنوا أن هذه العقود من جنس الإجارة ; لأنها عمل بعوض ، والإجارة يشترط فيها العلم بالعوض والمعوض ، فلما رأوا العمل والربح في هذه العقود غير معلومين قالوا : هي على خلاف القياس ، وهذا من غلطهم ، فإن هذه العقود من جنس المشاركات ، لا من جنس المعاوضات المحضة التي يشترط فيها العلم بالعوض والمعوض ، والمشاركات جنس غير جنس المعاوضات ، وإن كان فيها شوب المعاوضة ، وكذلك المقاسمة جنس غير جنس المعاوضة المحضة ، وإن كان فيها شوب المعاوضة حتى ظن بعض الفقهاء أنها بيع يشترط فيها شروط البيع الخاص .

وإيضاح هذا أن العمل الذي يقصد به المال ثلاثة أنواع :

[ ص: 291 ] العمل المقصود به المال على ثلاثة أنواع ] : أحدها : أن يكون العمل مقصودا معلوما مقدورا على تسليمه ، فهذه الإجارة اللازمة .

الثاني : أن يكون العمل مقصودا ، لكنه مجهول أو غرر ، فهذه الجعالة ، وهي عقد جائز ليس بلازم ، فإذا قال " من رد عبدي الآبق فله مائة " فقد يقدر على رده وقد لا يقدر ، وقد يرده من مكان قريب أو بعيد ، فلهذا لم تكن لازمة ، لكن هي جائزة ، فإن عمل العمل استحق الجعل ، وإلا فلا ، ويجوز أن يكون الجعل فيها إذا حصل بالعمل جزءا شائعا ومجهولا جهالة لا تمنع التسليم ، كقول أمير الغزو " من دل على حصن فله ثلث ما فيه " أو يقول للسرية التي يسير بها " لكم خمس ما تغنمون أو ربعه " .

وتنازعوا في السلب : هل هو مستحق بالشرع كقول الشافعي أو بالشرط كقول أبي حنيفة ومالك ؟ على قولين ، وهما روايتان عن أحمد ، فمن جعله مستحقا بالشرط جعله من هذا الباب ، ومن ذلك إذا جعل للطبيب جعلا على الشفاء جاز ، كما أخذ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم القطيع من الشاء الذي جعله لهم سيد الحي ، فرقاه أحدهم حتى برئ ، والجعل كان على الشفاء لا على القراءة ، ولو استأجر طبيبا إجارة لازمة على الشفاء لم يصح ; لأن الشفاء غير مقدور له ، فقد يشفيه الله وقد لا يشفيه ، فهذا ونحوه مما تجوز فيه الجعالة ، دون الإجارة اللازمة .

فصل

وأما النوع الثالث فهو : ما لا يقصد فيه العمل ، بل المقصود فيه المال ، وهو المضاربة ، فإن رب المال ليس له قصد في نفس عمل العامل كالمجاعل ، والمستأجر له قصد في عمل العامل ، ولهذا لو عمل ما عمل ولم يربح شيئا لم يكن له شيء ، وإن سمى هذا جعالة بجزء مما يحصل من العمل كان نزاعا لفظيا ، بل هذه مشاركة : هذا بنفع ماله ، وهذا بنفع بدنه ، وما قسم الله من ربح كان بينهما على الإشاعة ، ولهذا لا يجوز أن يختص أحدهما بربح مقدر ; لأن هذا يخرجهما عن العدل الواجب في الشركة ، وهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من المزارعة ، فإنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة بعينها ، وهو ما نبت على الماذيانات وأقبال الجداول ونحو ذلك ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه ، ولهذا قال الليث بن سعد وغيره : إن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم أمر لو نظر فيه ذو البصيرة بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز ، فتبين أن النهي عن ذلك موجب القياس ، فإن هذا لو شرط في المضاربة لم يجز ، فإن مبنى المشاركات على العدل بين الشريكين ، فإذا خص أحدهما بربح دون الآخر لم [ ص: 292 ] يكن ذلك عدلا ، بخلاف ما إذا كان لكل منهما جزء شائع فإنهما يشتركان في المغنم والمغرم ، فإن حصل ربح اشتركا فيه ، وإن لم يحصل شيء اشتركا في المغرم ، وذهب نفع بدن هذا كما ذهب نفع مال هذا ، ولهذا كانت الوضيعة على المال ; لأن ذلك في مقابلة ذهاب نفع المال ، ولهذا كان الصواب أنه يجب في المضاربة الفاسدة بربح المثل ، فيعطى العامل ما جرت العادة أن يعطاه مثله إما نصفه أو ثلثه .

فأما أن يعطى شيئا مقدرا مضمونا في ذمة المالك كما يعطى في الإجارة والجعالة فهذا غلط ممن قاله ، وسبب غلطه ظنه أن هذه إجارة فأعطاه في فاسدها عوض المثل كما يعطيه في الصحيح المسمى ، ومما يبين غلط هذا القول أن العامل قد يعمل عشر سنين أو أكثر ، فلو أعطي أجرة المثل أعطي أضعاف رأس المال ، وهو في الصحيحة لا يستحق إلا جزءا من الربح إن كان هناك ربح ، فكيف يستحق في الفاسدة أضعاف ما يستحقه في الصحيحة ؟

وكذلك الذين أبطلوا المزارعة والمساقاة ظنوا أنهما إجارة بعوض مجهول فأبطلوهما ، وبعضهم صحح منهما ما تدعو إليه الحاجة كالمساقاة على الشجر لعدم إمكان إجارتها بخلاف الأرض فإنه يمكن إجارتها ، وجوزوا من المزارعة ما يكون تبعا للمساقاة إما مطلقا وإما إذا كان البياض الثلث ، وهذا كله بناء على أن مقتضى الدليل بطلان المزارعة ، وإنما جوزت للحاجة .

ومن أعطى النظر حقه علم أن المزارعة أبعد عن الظلم والغرر من الإجارة بأجرة مسماة مضمونة في الذمة ، فإن المستأجر إنما يقصد الانتفاع بالزرع النابت في الأرض ، فإذا لزمته الأجرة ومقصوده من الزرع قد يحصل وقد لا يحصل كان في هذا حصول أحد المعاوضين على مقصوده دون الآخر ، فأحدهما غانم ولا بد ، والآخر متردد بين المغنم والمغرم ، وأما المزارعة فإن حصل الزرع اشتركا فيه ، وإن لم يحصل شيء اشتركا في الحرمان ، فلا يختص أحدهما بحصول مقصوده دون الآخر ، فهذا أقرب إلى العدل وأبعد عن الظلم والغرر من الإجارة .

[ الأصل في جميع العقود العدل ]

والأصل في العقود كلها إنما هو العدل الذي بعثت به الرسل وأنزلت به الكتب ، قال - تعالى - : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } والشارع نهى عن الربا لما فيه من الظلم ، وعن الميسر لما فيه من الظلم ، والقرآن جاء بتحريم هذا وهذا ، وكلاهما أكل المال بالباطل ، وما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من المعاملات - كبيع الغرر ، وبيع الثمر قبل بدو صلاحه ، وبيع السنين ، وبيع حبل الحبلة ، وبيع المزابنة ، والمحاقلة ، وبيع الحصاة ، وبيع الملاقيح والمضامين ، ونحو ذلك - هي داخلة إما في الربا وإما في الميسر ، فالإجارة بالأجرة المجهولة مثل أن يكريه الدار بما [ ص: 293 ] يكسبه المكتري في حانوته من المال هو من الميسر .

وأما المضاربة والمساقاة والمزارعة فليس فيها شيء من الميسر ، بل هي من أقوم العدل ، وهو مما يبين لك أن المزارعة التي يكون فيها البذر من العامل أولى بالجواز من المزارعة التي يكون فيها البذر من رب الأرض ، ولهذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يزارعون على هذا الوجه ، وكذلك عامل النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على أن يعملوها من أموالهم ، والذين اشترطوا أن يكون البذر من رب الأرض قاسوا ذلك على المضاربة ، فقالوا : المضاربة فيها المال من واحد والعمل من آخر ، فكذلك المزارعة ينبغي أن يكون البذر فيها من مالك الأرض ، وهذا القياس - مع أنه مخالف للسنة الصحيحة ولأقوال الصحابة - فهو من أفسد القياس ، فإن المال في المضاربة يرجع إلى صاحبه ، ويقتسمان الربح ، فهذا نظير الأرض في المزارعة .

وأما البذر الذي لا يعود نظيره إلى صاحبه بل يذهب كما يذهب نفع الأرض فإلحاقه بالنفع الذاهب أولى من إلحاقه بالأصل الباقي ، فالعامل إذا أخرج البذر ذهب عمله وبذره ، ورب الأرض يذهب نفع أرضه ، وبدن هذا كأرض هذا ، فمن جعل البذر كالمال في المضاربة كان ينبغي له أن يعيد مثل هذا البذر إلى صاحبه ، كما قال مثل ذلك في المضاربة ، فكيف ولو اشترط رب البذر عود نظيره لم يجوزوا ذلك ؟ .

التالي السابق


الخدمات العلمية