الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ( فمن القسم الأول ) وهو الذي ذكره بعض النحاة إجراء الياء والواو الأصليتين مجرى الزائدتين فأبدلوا الهمزة بعدهما من جنسهما ، وأدغموهما في المبدل من قسمي المتطرف والمتوسط المتصل . حكى سماع ذلك من العرب يونس والكسائي ، وحكاه أيضا سيبويه ، ولكنه لم يقسه ، فخصه بالسماع ، ولم يجعله مطردا ، ووافق على الإبدال والإدغام في ذلك جماعة من القراء ، وجاء أيضا منصوصا عن حمزة ، وبه قرأ الداني على شيخه أبي الفتح فارس ، وذكره في " التيسير " وغيره ، وذكره أيضا أبو محمد في " التبصرة " ، وأبو عبد الله بن شريح في " الكافي " ، وأبو القاسم الشاطبي ، وغيرهم وخصه أبو علي بن بليمة ( بشيء ، و هيئة ، و موئلا ) فقط ، فلم يجعله مطردا ، ولم يذكر أكثر الأئمة من القراء والنحاة سوى النقل كأبي الحسن بن غلبون ، وأبيه أبي الطيب وأبي عبد الله بن سفيان وأبي العباس المهدوي وأبي الطاهر صاحب " العنوان " ، وشيخه عبد الجبار الطرسوسي وأبي القاسم بن الفحام ، والجمهور ، وهو اختيار ابن مجاهد وغيره ، وهو القياس المطرد إجماعا ، وانفرد الحافظ أبو العلاء فخص جواز الإدغام من ذلك بحرف اللين ولم يجزه بحرف المد ، وكأنه لاحظ كونه حرف مد لا يجوز إدغامه وهذا لا يخلصه فيما إذا كان حرف المد زائدا ، فإنه يجب إدغامه قولا واحدا نحو ( هنيئا ، و قروء ) ( والجواب ) عن ذلك أن الإدغام فيه تقديري ، فإنا لما لفظنا بياء مشددة وواو مشددة تخفيفا للهمز قدرنا إبدال الهمزة بعد حرف المد ، وإدغام حرف المد في الهمز ، ونظير هذا إدغام أبي عمرو ( نودي ياموسى ، هو والذين آمنوا ) فإن النطق فيه بياء وواو مشددتين وكوننا سكنا الياء والواو حتى صارا حرفي مد ، ثم أدغمناهما فيما بعدهما - تقديري ، والله أعلم .

                                                          وذكر بعض النحاة الإبدال والإدغام في المنفصل نحو ( في أنفسكم وقالوا آمنا ) وحكاه أبو عمرو في ( الفرخ ) ، عن بعض العرب ، ووافق [ ص: 441 ] على جواز ذلك من القراء أبو طاهر بن سوار وأبو الفتح بن شيطا ، وأجاز نحاة الكوفيين أن تقع همزة بين بين بعد كل ساكن كما تقع بعد المتحرك ، ذكره الأستاذ أبو حيان في " الارتشاف " ، وقال هذا مخالف لكلام العرب . انتهى . وانفرد أبو العلاء الهمداني من القراء بالموافقة على ذلك فيما وقع الهمز فيه بعد حرف مد ، سواء كان متوسطا بنفسه أو بغيره ، فأجرى الواو والياء مجرى الألف ، وسوى بين الألف وغيرها من حيث اشتراكهن في المد .

                                                          ( قلت ) : وذلك ضعيف جدا ، فإنهم إنما عدلوا إلى بين بين بعد الألف لأنه لا يمكن معها النقل ولا الإدغام بخلاف الياء والواو ، والله أعلم . على أن الحافظ أبا عمرو الداني حكى ذلك في ( موئلا ، و الموءودة ) وقال : إنه مذهب أبي طاهر بن أبي هاشم ، وهو قريب في ( موئلا ) من أجل اتباع الرسم عند من يأخذ به ، والله أعلم .

                                                          وأجاز بعض النحاة الاستغناء عن النقل بعد الياء والواو إذا كانا حرفي مد بحذف الهمزة ، فيقولون في نحو ( تزدري أعينكم ، و أدعو إلى ، تزدري أعينكم ، و أدعو إلى ) ولم يوافق على هذا التخفيف أحد من القراء ، وأجاز النحاة النقل بعد الساكن الصحيح مطلقا ، ولم يفرقوا بين ميم جمع ولا غيرها ، ولم يوافقه القراء على ذلك ، فأجازوا في غير ميم الجمع نحو ( قد أفلح ، وقل إني ) لا في نحو ( عليكم أنفسكم ، ذلكم إصري ) فقال الإمام أبو الحسن السخاوي لا خلاف في تحقيق مثل هذا في الوقف عندنا . انتهى . وهذا هو الصحيح الذي قرأناه به ، وعليه العمل ، وإنما لم يجز النقل في ذلك ; لأن ميم الجمع أصلها الضم ، فلو حركت بالنقل لتغيرت ، عن حركتها الأصلية فيما مثلنا به ; ولذلك آثر من مذهبه النقل صلتها عند الهمز لتعود إلى أصلها ولا تحرك بغير حركتها على ما فعل ورش وغيره ، على أن ابن مهران ذكر في كتابه في وقف حمزة فيها مذاهب .

                                                          ( أحدها ) نقل حركة الهمزة إليها مطلقا ، فتضم في نحو ( ومنهم أميون ) وتفتح في نحو ( أنتم أعلم ) وتكسر في نحو ( إيمانكم إن كنتم ) .

                                                          ( الثاني ) أنها تضم مطلقا ، ولو كانت الهمزة مفتوحة أو مكسورة حذرا من تحرك [ ص: 442 ] الميم بغير حركتها الأصلية .

                                                          ( قلت ) : وهذا لا يمكن في نحو ( عليهم آياتنا ، زادتهم إيمانا ) ; لأن الألف والياء حينئذ لا يقعان بعد ضمة .

                                                          ( الثالث ) ينقل في الضم والكسر دون الفتح لئلا تشتبه بالتثنية ، وأجاز بعض النحاة في الساكن الصحيح قبل الهمز المتطرف إبدال الهمزة بمثل حركة ما قبل ذلك الساكن حالة الوقف ، وذلك نحو ( يخرج الخبء ، و ينظر المرء ، و دفء ، و جزء ) فيقولون : هذا الخباء ، ورأيت الخباء ، ومررت بالخباء ، وهذا الدفيء ، ورأيت الدفيء ، ومررت بالدفيء ، وهذا الجزوء ، ورأيت الجزوء ، ومررت بالجزوء - على سبيل الاتباع ، وهذا مسموع مطرد ، ذكره سيبويه وغيره ، ولم يوافق على هذا أحد من القراء إلا الحافظ أبو العلاء ، فإنه حكى وجها آخر في ( الخبء ) تبدل الهمزة ألفا بعد النقل ، فخصه بالمفتوحة ، وأجاز بعضهم في نحو هذا أيضا النقل إلى الحرف فقط ، فيقول : هذا الخبؤ والدفؤ والجزؤ ، ورأيت الخبأ والدفأ والجزأ ، ومررت بالخبيء والدفيء والجزيء . ذكره ابن مالك في تسهيله مطردا ، ولم يوافق عليه أحد من القراء ، وأجاز النحاة في ( كمأة - كماة ) بالنقل فقط والإبدال ، وهو عند البصريين شاذ مطرد ، وحكاه سيبويه ، وقال هو قليل ، وقاس عليه الكوفيون ، فيجيزون ( يسألون و يجأرون و النشأة ) وحركة الساكن بالفتح في ذلك هي حركة الهمزة ، ثم أبدلت الهمزة ألفا . وقيل : أبدلوا الهمزة ألفا ، فلزم انفتاح ما قبلها ، ولم يوافق على ذلك أحد من القراء إلا أبو العلاء الهمداني ، فذكره وجها آخر ، وقد ذكره كثير منهم في ( النشأة ) فقط من أجل أنها كتبت بالألف كما سيأتي . وأجاز الكوفيون وبعض البصريين إبدال الهمزة على حسب إبدالها في الفعل . وروى الفراء وأبو زيد ذلك عن العرب . فمن أبدل منهم الهمزة في الفعل قال : ( استهزيت ) مثل : استقصيت ، واتكيت ، مثل اكتريت ( وأطفيت مثل أوصيت ) وتقول من ذلك : هؤلاء مستهزون مثل مستقضون ، ويستهزون مثل يستقضون ، والمتكون مثل مكترون ، ويطفون مثل يوصون ، ويطون مثل [ ص: 443 ] يرون . فيبنون الكلمة على فعلها ، فيجب حينئذ ضم ما قبل الواو لذلك إن كان مضموما ، وليست هذه الضمة ضمة نقل حتى يلزم من ذلك نقل حركة الهمزة إلى المتحرك كما توهمه بعضهم . قال الزجاج : أما ( يستهزون ) فعلى لغة من يبدل من الهمزة ياء في الأصل ، فيقولون في ( استهزأ : استهزيت ) فيجب على استهزيت ( يستهزون ) وكذا القول في ( مستهزين ، وخاسيين ، وخاطيين ) وهو عندهم صحيح مطرد ، وبه قرأ أبو جعفر فيما تقدم منه قراءته وقراءة نافع : ( الصابون ، والصابين ) . وقد وافق على ذلك في الوقف ، عن حمزة كثير من أهل الأداء ، وجاء منصوصا عنه ، فروى محمد بن سعيد البزاز ، عن خلاد ، عن سليم ، عن حمزة أنه كان يقف ( مستهزون ) بغير همز ويضم الزاي . وروى إسماعيل بن شداد ، عن شجاع قال : كان حمزة يقف ( مستهزون ) برفع الزاي من غير همز ، وكذلك ( متكون والخاطون ومالون وليطفوا ) بغير همز في هذه الأحرف كلها ، وبرفع الكاف والفاء والزاي والطاء ، وقال ابن الأنباري ، : أخبرنا إدريس ، ثنا خلف ، ثنا الكسائي قال : ومن وقف بغير همز قال : ( مستهزون ) برفع الزاي بغير مد ، وكذلك ( ليطفوا ) برفع الطاء ، وكذلك ( ليواطوا ) برفع الطاء ، وكذلك : ( يستنبونك ) برفع الباء . فمالون برفع اللام ، ونحو ذلك .

                                                          ( قلت ) : وهذا نص صريح بهذا الوجه مع صحته في القياس والأداء ، والعجب من أبي الحسن السخاوي ، ومن تبعه في تضعيف هذا الوجه وإخماله ، وجعله من الوجوه المخملة المشار إليها بقول الشاطبي :


                                                          ومستهزون الحذف فيه ونحوه وضم وكسر قبل قيل وأخملا

                                                          فحمل ألف أخملا على التثنية ، أي أن ضم ما قبل الواو وكسره حالة الحذف أخملا يعني الوجهين جميعا ، ووافقه على هذا أبو عبيد الله الفاسي ، وهو وهم بين وخطأ ظاهر ، ولو كان كذلك لقال قيلا وأخملا ، والصواب أن الألف من أخملا للإطلاق ، وإن هذا الوجه من أصح الوجوه المأخوذ بها لحمزة في الوقف ، وممن نص على صحته صاحب " التيسير " في كتابه " جامع البيان " ، وتبعه على ذلك الشاطبي وغيره ، وإنما الخامل الوجه الآخر ، وهو حذف الهمزة وإبقاء ما قبل الواو مكسورا على [ ص: 444 ] حاله على مراد الهمز كما أجازه بعضهم ، وحكاه خلف عن الكسائي ، قال الداني : وهذا لا عمل عليه . ( قلت ) : فهذا الذي أشار إليه الشاطبي بالإخمال لا يصح رواية ولا قياسا ، والله أعلم .

                                                          وذهب بعض النحاة إلى إبدال الهمزة المضمومة بعد كسر المكسورة بعد ضم حرفا خالصا فتبدل في نحو ( سنقريك ويستهزون ) ياء ، وفي نحو ( سئل و اللؤلؤ ) واوا ، ونسب هذا على إطلاقه إلى أبي الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش النحوي البصري أكبر أصحاب سيبويه ، فقال الحافظ أبو عمرو الداني في جامعه : هذا هو مذهب الأخفش النحوي الذي لا يجوز عنده غيره . وتبعه على ذلك الشاطبي وجمهور النحاة على ذلك عنه ، والذي رأيته أنا في كتاب " معاني القرآن " أنه لا يجيز ذلك إلا إذا كانت الهمزة لام الفعل نحو ( سنقريك ، واللولو ) ، وأما إذا كانت عين الفعل نحو ( سئل ) أو من منفصل نحو ( يرفع إبراهيم ، ويشاء إلى ) فإنه يسهلها بين بين كمذهب سيبويه ، والذي يحكيه عنه القراء والنحاة إطلاق الإبدال في النوعين ، وأجازه كذلك عن حمزة في الوقف أبو العز القلانسي وغيره ، وهو ظاهر كلام الشاطبي ، ووافق الحافظ أبو العلاء الهمداني على جواز الإبدال في المضمومة بعد كسر فقط مطلقا ، أي : في المنفصل والمتصل فاء الفعل ولامه . وحكى أبو العز ذلك في هذا النوع خاصة عن أهل واسط وبغداد وهي تسهيل بين بين ، وعن أهل الشام ومصر والبصرة ، وحكى الأستاذ أبو حيان النحوي عن الأخفش الإبدال في النوعين ، ثم قال : وعنه في المكسورة المضموم ما قبلها من كلمة أخرى التسهيل بين بين ، فنص له على الوجهين جميعا في المنفصل ، وذهب جمهور أئمة القراء إلى إلغاء مذهب الأخفش في النوعين في الوقف لحمزة ، وأخذوا بمذهب سيبويه في ذلك ، وهو التسهيل بين الهمزة وحركتها ، وهو مذهب أبي طاهر صاحب " العنوان " ، وشيخه عبد الجبار الطرسوسي وأبي العباس المهدوي وأبي طاهر بن سوار وأبي القاسم بن الفحام صاحب " التجريد " ، وأبي الطيب بن غلبون وابنه أبي الحسن طاهر ولم يرض مذهب [ ص: 445 ] الأخفش ، ورد عليه في كتابه وقف حمزة ، وذهب آخرون من الأئمة إلى التفصيل ، فأخذوا بمذهب الأخفش فيما وافق الرسم نحو ( سنقريك واللولو ) وبمذهب سيبويه نحو ( سيل ويستهزون ) ونحوه لموافقة الرسم كما سنوضحه من التخفيف الرسمي ، وهو اختيار الحافظ أبي عمرو الداني وغيره ، وذهب جماعة من النحاة إلى جواز إبدال الهمزة المتطرفة في الوقف من جنس حركتها في الوصل ، سواء كانت بعد متحرك ، أو بعد ساكن ، وحكوا ذلك سماعا عن غير الحجازيين من العرب كتميم وقيس وهذيل وغيرهم ، وذلك نحو ( الملا ) و ( نبا ) و ( يدرو ) و ( تفتوا ) و ( العلموا ) و ( يشا ) و ( الخب ) فيقولون في " جا الملا ، و " مررت بالملي " ، و " رأيت الملا " ، و " هذا نبو " ، و " جئت بنبي " ، و " سمعت نبا " ، و " هؤلاء العلما " ، و " مررت بالعلماي ، و " رأيت العلما " ، و " هذا الخبو " ، و " مررت بالخبي " ، و " رأيت الخبا " ، و " زيد يدرو " ، و " يفتو " ، و " يشاو " ، و " لن يدرا " ، و " لن يفتا " ، و " لن يشا " . فتكون الهمزة واوا في الرفع وياء في الجر ، أما في النصب فيتفق هذا التخفيف مع التخفيف المتقدم لفظا ، ويختلفان تقديرا ، وكذلك يتفق هذا التخفيف مع المتقدم حالة الرفع إذا انضم ما قبل الهمز ، وحالة الجر إذا انكسر نحو ( يخرج منهما اللولو ، ومن شاطي ) ويختلفان تقديرا ، فعلى التخفيف الأول تخفف بحركة ما قبلها ، وعلى هذا التخفيف بحركة نفسها ، وتظهر فائدة الخلاف في الإشارة بالروم والإشمام ، ففي تخفيفها بحركة نفسها تأتي الإشارة ، وفي تخفيفها بحركة ما قبلها تمتنع ، ولا يعتد بالألف التي قبل الهمزة ؛ لأنها حاجز غير حصين ، فتقدر الهمزة معها كأنها بعد متحرك في سائر أحكامها ، ووافق جماعة من القراء على هذا التخفيف فيما وافق رسم المصحف . فما رسم منه بالواو وقف عليه بها ، أو بالياء فكذلك ، أو بالألف فكذلك ، وهذا مذهب أبي الفتح فارس بن أحمد وغيره ، واختيار الحافظ أبي عمرو كما أذكره .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية