الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر مافتحه زيادة الله بن الأغلب من جزيرة صقلية وما كان فيها من الحروب إلى أن توفي

في سنة اثنتي عشرة ومائتين جهز زيادة الله جيشا في البحر ، وسيرهم إلى جزيرة صقلية ، واستعمل عليهم أسد بن الفرات ، قاضي القيروان ، وهو من أصحاب مالك ، وهو مصنف الأسدية ( في الفقه على مذهب مالك ) ، فلما وصلوا إليها ملكوا كثيرا منها .

وكان سبب إنفاذ الجيش أن ملك الروم بالقسطنطينية استعمل على جزيرة صقلية بطريقا اسمه قسطنطين سنة إحدى عشرة ومائتين ، فلما وصل إليها استعمل على جيش الأسطول إنسانا روميا اسمه فيمي ، كان حازما شجاعا ، فغزا إفريقية ، وأخذ من سواحلها تجارا ، ونهب ، وبقي هناك مديدة .

ثم إن ملك الروم كتب إلى قسطنطين ( يأمره بالقبض ) على فيمي ، مقدم الأسطول ، وتعذيبه ، فبلغ الخبر إلى فيمي ، فأعلم أصحابه فغضبوا له ، وأعانوه على المخالفة ، فسار في مراكبه إلى صقلية ، واستولى على مدينة سرقوسة ، فسار إليه قسطنطين ( فالتقوا واقتتلوا ، فانهزم قسطنطين ) إلى مدينة قطانية ، فسير إليه فيمي [ ص: 490 ] جيشا ، فهرب منهم ، فأخذ وقتل ، وخوطب فيمي بالملك ، واستعمل على ناحية من الجزيرة رجلا اسمه بلاطه ، فخالف على فيمي ، وعصى ، واتفق هو وابن عم له اسمه ميخائيل ، وهو والي مدينة بلرم ، وجمعا عسكرا كثيرا ، فقاتلا فيمي ، وانهزم ، فاستولى بلاطه على مدينة سرقوسة .

وركب فيمي ومن معه في مراكبهم إلى إفريقية ، وأرسل إلى الأمير زيادة الله يستنجده ، ويعده بملك جزيرة صقلية ، فسير معه جيشا في ربيع الأول سنة اثنتي عشرة ومائتين ، فوصلوا إلى مدينة مازر من صقلية ، فساروا إلى بلاطه ، الذي قاتل فيمي ، فلقيهم جمع للروم ، فقاتلهم المسلمون ، وأمروا فيمي ومن معه أن يعتزلوهم ، واشتد القتال بين المسلمين والروم ، فانهزمت الروم ، وغنم المسلمون أموالهم ودوابهم ، وهرب بلاطه إلى قلورية ، فقتل بها .

واستولى المسلمون على عدة حصون من الجزيرة ، ووصلوا إلى قلعة تعرف بقلعة الكراث وقد اجتمع إليها خلق كثير ، فخدعوا القاضي أسد بن الفرات أمير المسلمين ، وذلوا له ، فلما رآهم فيمي مال إليهم ، وراسلهم أن يثبتوا ، ويحفظوا بلدهم ، فبذلوا لأسد الجزية ، وسألوه أن لا يقرب منهم ، فأجابهم إلى ذلك ، وتأخر عنهم ( أياما ، فاستعدوا للحصار ، ودفعوا إليهم ما يحتاجون إليه ، فامتنعوا عليه ) ، وناصبهم الحرب ، وبث السرايا في كل ناحية ، فغنموا شيئا كثيرا ، وافتتحوا عمرانا كثيرا حول سرقوسة ، ( وحاصروا سرقوسة ) برا وبحرا ، ولحقته الأمداد من إفريقية ، فسار إليهم والي بلرم في عساكر كثيرة ، فخندق المسلمون عليهم ، وحفروا خارج الخندق حفرا كثيرة ، فحمل الروم عليهم ، فسقط في تلك الحفر كثير منهم ، فقتلوا .

وضيق المسلمون على سرقوسة ، فوصل أسطول من القسطنطينية فيه جمع كثير ، [ ص: 491 ] وكان قد حل بالمسلمين وباء شديد ، ( سنة ثلاث عشرة ومائتين ) ، هلك فيه كثير منهم ، وهلك فيه أميرهم أسد بن الفرات ، وولي الأمر على المسلمين بعده محمد بن أبي الجواري ، فلما رأى المسلمون شدة الوباء ووصول الروم ، تحملوا في مراكبهم ليسيروا ، فوقف الروم في مراكبهم على باب المرسى ، فمنعوا المسلمين من الخروج .

فلما رأى المسلمون ذلك أحرقوا مراكبهم وعادوا ، ورحلوا إلى مدينة ميناو ، ( فحصروها ثلاثة أيام ) ، وتسلموا الحصن ، فسار طائفة منهم إلى حصن جرجنت ، فقاتلوا أهله وملكوه ، وسكنوا فيه ، واشتدت نفوس المسلمين بهذا الفتح وفرحوا .

ثم ساروا إلى مدينة قصريانة ومعهم فيمي ، فخرج أهلها إليه ، فقبلوا الأرض بين يديه ، وأجابوا إلى أن يملكوه عليهم ، وخدعوه ، ثم قتلوه .

ووصل جيش كثير من القسطنطينية مددا لمن في الجزيرة ، فتصافوا هم والمسلمون ، فانهزم الروم ، وقتل منهم خلق كثير ، ودخل من سلم قصريانة .

وتوفي محمد بن أبي الجواري أمير المسلمين ، وولي بعده زهير بن غوث .

ثم إن سرية المسلمين سارت للغنيمة ، فخرج عليها طائفة من الروم فاقتتلوا ، وانهزم المسلمون ، وعادوا من الغد ، ومعهم جمع العسكر ، فخرج إليهم الروم ، وقد اجتمعوا وحشدوا ، وتصافوا مرة ثانية ، فانهزم المسلمون أيضا ، وقتل منهم نحو ألف قتيل ، وعادوا إلى معسكرهم ، وخندقوا عليهم ، فحصرهم الروم ، ودام القتال بينهم ، فضاقت الأقوات على المسلمين ، فعزموا على بيات الروم ، فعلموا بهم ، ففارقوا الخيم ، وكانوا بالقرب منها ، فلما خرج المسلمون لم يروا أحدا .

وأقبل الروم من كل ناحية ، فأكثروا القتل فيهم ، وانهزم الباقون ، فدخلوا [ ص: 492 ] ميناو ، ودام الحصار عليهم حتى أكلوا الدواب والكلاب .

فلما سمع من في مدينة جرجنت من المسلمين ما هم عليه هدموا المدينة ، وساروا إلى مازر ، ولم يقدروا على نصرة إخوانهم ، ودام الحال كذلك إلى أن دخلت سنة أربع عشرة ومائتين ، وقد أشرف المسلمون على الهلاك ، وإذ قد أقبل أسطول كثير من الأندلس ، خرجوا غزاة ، ووصل في ذلك الوقت مراكب كثيرة من إفريقية مددا للمسلمين ، فبلغت عدة الجميع ثلاثمائة مركب ، فنزلوا إلى الجزيرة ، فانهزم الروم عن حصار المسلمين وفرج الله عنهم ، وسار المسلمون إلى مدينة بلرم ، فحصروها ، وضيقوا على من بها ، فطلب صاحبها الأمان لنفسه ولأهله ولماله ، فأجيب إلى ذلك ، وسار في البحر إلى بلاد الروم .

ودخل المسلمون البلد في رجب سنة ست عشرة ومائتين ، فلم يروا فيه إلا أقل من ثلاثة آلاف إنسان ، وكان فيه لما حصروه سبعون ألفا ، وماتوا كلهم .

وجرى بين المسلمين : أهل إفريقية ، وأهل الأندلس - خلف ونزاع ، ثم اتفقوا ، وبقي المسلمون إلى سنة تسع عشرة ومائتين .

وسار المسلمون إلى مدينة قصريانة ، فخرج من فيها من الروم ، فاقتتلوا أشد قتال ، ففتح الله على المسلمين ، ( وانهزم الروم إلى معسكرهم ) ، ثم رجعوا في الربيع فقاتلوهم ، فنصر المسلمون أيضا .

ثم ساروا سنة عشرين ومائتين ، ( وأميرهم محمد بن عبد الله إلى قصريانة ، فقاتلهم الروم ، فانهزموا ، وأسرت امرأة لبطريقهم وابنه ، وغنموا ما كان في عسكرهم وعادوا إلى بلرم .

ثم سير محمد بن عبد الله عسكرا إلى ناحية طبرمين ) ، عليهم محمد بن سالم ، فغنم غنائم كثيرة ، ثم عدا عليه بعض عسكره فقتلوه ، ولحقوا بالروم ، فأرسل زيادة الله من إفريقية الفضل بن يعقوب عوضا منه ، فسار في سرية إلى ناحية سرقوسة ، فأصابوا غنائم كثيرة وعادوا ، ثم سارت سرية كبيرة ، فغنمت وعادت ، فعرض لهم البطريق ملك الروم بصقلية ، وجمع كثير ، فتحصنوا من الروم في أرض وعر ، وشجر كثيف ، فلم [ ص: 493 ] يتمكن من قتالهم ، وواقفهم إلى العصر ، فلما رأى أنهم لا يقاتلونهم عاد عنهم ، فتفرق أصحابه وتركوا التعبئة .

فلما رأى المسلمون ذلك حملوا عليهم حملة صادقة ، فانهزم الروم وطعن البطريق ، وجرح عدة جراحات ، وسقط عن فرسه ، فأتاه حماة أصحابه ، واستنقذوه جريحا ، وحملوه ، وغنم المسلمون ما معهم من سلاح ومتاع ودواب ، فكانت وقعة عظيمة .

وسير زيادة الله من إفريقية إلى صقلية أبا الأغلب إبراهيم بن عبد الله أميرا عليها ، فخرج إليها ، فوصل إليها منتصف رمضان ، فبعث أسطولا ، فلقوا جمعا للروم في أسطول ، فغنم المسلمون [ ما فيه ] ، فضرب أبو الأغلب رقاب كل من فيه .

وبعث أسطولا آخر إلى قوصرة ، فظفر بحراقة فيها رجال من الروم ، ورجل متنصر من أهل إفريقية ، فأتى بهم فضرب رقابهم .

وسارت سرية أخرى إلى جبل النار والحصون التي في تلك الناحية ، فأحرقوا الزرع ، وغنموا ( وأكثروا القتل .

ثم سير أبو الأغلب سنة إحدى وعشرين ومائتين سرية إلى جبل النار أيضا ، فغنموا غنائم عظيمة ، حتى بيع الرقيق بأبخس الأثمان ، وعادوا سالمين .

وفيها سير أبو الأغلب أيضا سرية إلى قسطلياسة ، فغنموا وسبوا ، ولقيهم العدو ، فكانت بينهم حرب استظهر فيها الروم .

وسير سرية إلى مدينة قصريانة ، فخرج إليهم العدو ، فاقتتلوا ، فانهزم المسلمون وأصيب منهم جماعة .

ثم كانت وقعة أخرى بين الروم والمسلمين ، فانهزم الروم ، وغنم المسلمون منهم تسعة مراكب كبار برجالها وشلندس . فلما جاء الشتاء وأظلم الليل رأى رجل من [ ص: 494 ] المسلمين غرة من أهل قصريانة ، فقرب منه ، ورأى طريقا ، فدخل منه ، ولم يعلم به أحد ، ثم انصرف إلى العسكر ، فأخبرهم فجاءوا معه ، فدخلوا من ذلك الموضع ، وكبروا ، وملكوا ربضه ، وتحصن المشركون منهم بحصنه ، فطلبوا الأمان ، فأمنوهم ، وغنم المسلمون غنائم كثيرة ، وعادوا إلى بلرم .

وفي سنة ثلاث وعشرين ومائتين وصل كثير من الروم في البحر إلى صقلية ، وكان المسلمون يحاصرون جفلوذى ، وقد طال حصارها ، فلما وصل الروم رحل المسلمون عنها ، وجرى بينهم وبين الروم الواصلين حروب كثيرة .

ثم وصل الخبر بوفاة زيادة الله ( بن إبراهيم بن الأغلب ) ، أمير إفريقية ، فوهن المسلمون ، ثم تشجعوا وضبطوا أنفسهم .

( سرقوسة بسين مفتوحة وقاف وواو وسين ثانية . وبلرم بفتح الباء الموحدة واللام وتسكين الراء وبعدها ميم . وميناو بميم وياء تحتها نقطتان ونون وبعد الألف واو . وجرجنت بجيم وراء وجيم ثانية مفتوحة [ ونون ] وتاء فوقها نقطتان ، وقصريانة بالقاف والصاد المهملة والراء والياء تحتها نقطتان وبعد الألف نون مشددة وهاء ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية