الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 246 ] رسالة

إلى القاضي محمد بن سليمان بن حمزة المقدسي

في حاجة الناس إلى مذهب الإمام أحمد

ومسألة ضمان البساتين [ ص: 248 ] بسم الله الرحمن الرحيم

نقلت من خط الشيخ الإمام العلامة شمس الدين أبي عبد الله محمد بن محمد بن أحمد بن المحب المقدسي الحنبلي، قال: نقلت من خط الشيخ بدر الدين حسن بن قاضي القضاة عز الدين محمد بن قاضي القضاة تقي الدين سليمان أعزه الله تعالى، قال: نسخة رسالة أرسلت إلى والدي محمد بن سليمان بن حمزة من شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني قدس الله روحه، يسلم على قاضي القضاة عز الدين -أعزه الله تعالى بطاعته، وأسبغ عليه جميل نعمته-، ويعرف خدمته:

إنا ولله الحمد في نعم عظيمة، ومنن جسيمة، لا يحصيها إلا الله، وهذه القضية كانت من أعظم نعم الله علينا وعلى سائر المسلمين، ولله فيها حكمة بالغة، ورحمة سابغة; فإن السلطان أراد أن يسعى في قطع أصول [ ص: 250 ] الإسلام والتوحيد وعبادة الله وحده وما بعث به رسوله، فمن الله في ذلك بمنن لا يقدر قدرها.

وقد كتب الخادم في ذلك أمورا كثيرة، وما كنت أرجو أن يتهيأ مثلها بدون هذه القضية، وكثير من ذلك عند الشيخ أبي عبد الله، وبعضه عند عبد الله الإسكندراني، فأيما طلبت هذا أو هذا فهو بوقف خدمتك. [ ص: 251 ]

على ما في ذلك من فضل الله ورحمته، ولو أنفقت ملء القلعة ذهبا شكرا على هذه النعمة كنت مقصرا في ذلك.

ولسلفكم الطيب علينا من الحقوق المشكورة، والانتفاع بعلمهم ودينهم، ما يوجب لكم ولهم من المودة والموالاة والمحبة ما الله به عليم، ولهذا كتبت إليكم هذه الورقة.

فإنكم تعلمون أن مذهب الإمام أحمد مذهب عظيم القدر; لعلمه بما جاء به الرسول، واتباعه له، ومعرفته بآثار الصحابة والتابعين، وفي كل مذاهب المسلمين خير.

والناس محتاجون إلى مذهب الإمام أحمد في مسائل متعددة; لكونه كان عنده فيها من العلم ما ليس عند غيره، ولاحتياج المسلمين إليها.

* مثل: مسألة تغيير الوقف من حال إلى حال أحسن منها; للمصلحة الراجحة، فإنه كان عنده أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هدم الجامع الأول بالكوفة، وبنى مكانه جامعا آخر، وصار الأول سوق التمارين، مع تغيير [ ص: 252 ] عمر وعثمان رضي الله عنهما لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة، ولألصقتها بالأرض، ولجعلت لها بابين».

ولهذا كان الإمام أحمد يتوسع في هذا الباب ما لا يتوسع غيره، والناس محتاجون إلى ذلك.

* ومن ذلك: مسألة المساقاة والمزارعة، فإن الناس محتاجون إلى مذهبه فيها، وهو أوسع من مذهب غيره.

والصحيح جواز المزارعة ببذر من العامل، كما اختاره موفق الدين، لحديث خيبر.

وكذلك: لو كانوا ثلاثة.

ويجوز أمثال ذلك مما لا يتسع له هذا الموضع.

* وكذلك: المناصبة، نص عليها قدماء أصحابه، كأبي حفص وغيره، [ ص: 253 ] وذكرها القاضي في تعليقه، ورجع عما نقله عنه في «المغني» من منعه منها، وذكر دلالة كلام أحمد عليها.

* ومن ذلك: أنه لا يلزم الزوج بالصداق المؤخر حتى يحصل بينهما فرقة بموت أو طلاق. وبهذا قضى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

* ومن ذلك: ما كان الوالد تقي الدين قدس الله روحه يحكم به -وأحسن في ذلك - من إثبات الجائحة في المزارع إذا أكريت الأرض بألف، وكان بالجائحة يساوي كراها تسعمئة.

وبعض الناس يظن أن هذا خلاف لما في «المغني» من الإجماع، وهو غلط; فإن الذي في «المغني» أن نفس الزرع إذا تلف يكون من ضمان المستأجر صاحب الزرع، لا يكون كالثمرة المشتراة، وهذا ما فيه خلاف، [ ص: 254 ] وإنما الجائحة في نفس أجرة الأرض ونقص قيمتها، كما لو انقطع الماء عن الرحى، ونحو ذلك.

* ومن ذلك: أمر ضمان البساتين، فإن أحمد قد نص على أن الاحتيال بإكراء الأرض والمساقاة على الشجر لا يجوز.

وابن عقيل اختار ضمان الأرض والشجر جميعا، كما يفعل الناس; لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل حديقة أسيد بن حضير ثلاث سنين، وتسلف الأجرة، فقضى بها دينه، وكان قد قتل في قتال مسيلمة الكذاب. روى هذا حرب الكرماني في مسائله عن أحمد، ورواه أبو زرعة الدمشقي، وغيرهما. [ ص: 255 ]

وليس هذا داخلا فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع الثمار قبل بدو صلاحها ; فإن ذلك بيع الثمر بمنزلة أن يبيع الحب قبل اشتداده، والنبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد»، فإذا كان له زرع فباعه قبل اشتداده لم يجز، ولو آجر الأرض لمن يزرعها جاز ذلك، والضمان هو من جنس الإجارة، لا من جنس البيع. [ ص: 256 ]

وفي البيع يكون سقي الثمرة وخدمتها على البائع، ولو تلفت بجائحة كانت من ضمان البائع. وفي الإجارة يكون السقي والعمل على الضامن المستأجر، ولو تلفت الثمرة كانت من ضمانه، لكن توضع عنه الجائحة لنقص منفعة الإجارة، كما لو استأجر الأرض.

والناس كلهم محتاجون إلى مسألة الضمان، وإلى هذا القول الذي اختاره ابن عقيل.

ومالك يقول بذلك، لكن يشترط أن يكون بياض الأرض الثلثين، وأما ابن عقيل فيجوز ذلك مطلقا ولو كان الشجر هو الغالب، مثل كثير من البساتين، وعمر ضمن حديقة نخل.

والنقيب جمال الدين من خيار الناس، ومقاصده صالحة، وهو سليم القلب، وهو قد اطمأن إلى خدمتك، وهو محب لك، وهو يطلب من إحسانك إحكام قضيته; لئلا يمكر به، وهو قد وقف نصف الشجر، وصار هذا النصف معه بحكم الضمان، وإذا انقضت هذه المدة فإنه يصير ضامنا لنصف الشجر، والأرض بيضاء، فهو يطلب أن يحكم له بذلك.

فإن شرح الله صدرك بأن تكتب ضمانا للأرض، والشجر داخلة في ذلك، وأنه هو المستحق لثمرتها، وتحكم بصحة هذا الضمان، مع علمك باختلاف [ ص: 257 ] العلماء - فهذه رحمة لهذا ولجميع المسلمين، ولك إن شاء الله بهذا من الدعاء والثناء ما الله به عليم.

وهذا أشبه بأصول أحمد، وأبعد عن المكر والظلم، وهو الموافق لعقول الناس وفطرتهم; فإن الضامن إنما يعطي الضمان لأجل الشجر، ولو كانت أرضا بيضاء لم يستأجرها إلا بقليل.

وأيضا، فالمساقاة بجزء من ألف جزء لا تسوغ لناظر الوقف وولي اليتيم ونحوهما، فإن عقد المساقاة مجردا لم يجز، وإن شرطها في إيجاره الأرض لم يجز، والإمام أحمد قد نص على إبطال هذه الحيلة بعينها.

وهذا وأمثاله من محاسن مذهب أحمد; فإنه لا يسوغ المكر والخداع، كما قال أيوب السختياني: «يخادعون الله كأنما يخادعون صبيا، لو كانوا يأتون الأمر على وجهه كان أسهل».

التالي السابق


الخدمات العلمية