الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يحيى بن خالد بن برمك ،

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أبو علي الوزير ، والد جعفر البرمكي ،
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ضم إليه المهدي ولده الرشيد ، فرباه وأرضعته امرأته مع الفضل بن يحيى ، فلما ولي الرشيد عرف له حقه ، وكان يقول : قال أبي . وفوض إليه أمور الخلافة وأزمتها ، ولم يزل كذلك حتى نكبت البرامكة ، فقتل جعفرا ، وخلد أباه في الحبس حتى مات في هذه السنة . وكان كريما فصيحا ، ذا رأي سديد ، [ ص: 677 ] ويظهر من أموره خير وصلاح .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال يوما لولده : خذوا من كل شيء طرفا ، فإن من جهل شيئا عاداه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال لأولاده : اكتبوا أحسن ما تسمعون ، واحفظوا أحسن ما تكتبون ، وتحدثوا بأحسن ما تحفظون .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان يقول لهم : إذا أقبلت الدنيا فأنفقوا منها فإنها لا تفنى ، وإذا أدبرت فأنفقوا منها فإنها لا تبقى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان إذا سأله سائل في الطريق وهو راكب أقل ما يأمر له بمائتي درهم ، فقال له رجل يوما :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يا سمي الحصور يحيى أتيحت لك من فضل ربنا جنتان     كل من مر في الطريق عليكم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فله من نوالكم مائتان     مائتا درهم لمثلي قليل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      هي منكم للقابس العجلان

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقال : صدقت . وأمر أن يسبق به إلى الدار ، فلما رجع سأل عنه ، فإذا هو قد تزوج ، وهو يريد أن يدخل على أهله ، فأعطاه صداقها أربعة آلاف ، وثمن دار أربعة آلاف ، وثمن الأمتعة أربعة آلاف ، وثمن الدخول أربعة آلاف ، وأربعة آلاف يستظهر بها . [ ص: 678 ] وجاء رجل يوما يسأله شيئا ، فقال : ويحك! لقد جئتني في وقت لا أملك فيه مالا ، ولكن قد بعث إلي صاحب لي يطلب مني أن يهدي إلي ما أحب ، وقد بلغني أنك تريد أن تبيع جارية لك ، وأنك قد أعطيت فيها ثلاثة آلاف دينار ، وإني سأطلبها منه ، فلا تبعها منه بأقل من ثلاثين ألف دينار ، فلما جائني يساومني فيها ألححت أن لا أبيعها بأقل من ثلاثين ألف دينار ، فبلغ ثمنها عشرين ألف دينار ، فلما سمعتها ضعف قلبي وأجبت إلى بيعها ، فلما اجتمعت بيحيى ، قال : بكم بعتها؟ قلت : بعشرين ألف دينار . قال : إنك لخسيس ، خذ جاريتك إليك ، وقد بعث إلي نائب فارس يطلب مني أن أستهديه شيئا ، وإني سأطلبها منه ، فلا تبعها بأقل من خمسين ألف دينار ، فجاءوني فوصلوا إلى ثلاثين ألف دينار ، فبعتها . فلما جئته لامني أيضا ، وردها علي ، فقلت : أشهدك أنها حرة ، وأني قد تزوجتها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر الخطيب أن الرشيد طلب من منصور بن زياد عشرة آلاف ألف درهم ، ولم يكن عنده منها سوى ألف ألف ، فضاق ذرعا ، وقد توعده إن لم يحملها في يومه ذلك وإلا قتله ، فدخل على يحيى بن خالد ، وذكر له أمره ، فأطلق له خمسة آلاف ألف ، واستطلق له من ابنه الفضل ألفي ألف ، وقال لابنه : [ ص: 679 ] يا بني ، بلغني أنك تريد أن تشتري بها ضيعة ، وهذه ضيعة تغل الشكر وتبقى مدى الدهر . وأخذ له من ابنه جعفر ألف ألف ، وأخذ له من جاريته دنانير عقدا مشتراه مائة ألف دينار ، وعشرون ألف دينار ، وقال للمترسم عليه : قد حسبناه عليك بألفي ألف . فلما عرضت الأموال على الرشيد رد العقد ، وكان قد وهبه لجارية يحيى ، فلم يعد فيه بعد أن وهبه لها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال له بعض بنيه وهم في السجن والقيود : يا أبت ، بعد الأمر والنهي والنعمة صرنا إلى هذا الحال . فقال : يا بني ، دعوة مظلوم سرت بليل ونحن عنها غافلون ، ولم يغفل الله عنها . ثم أنشأ يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      رب قوم قد غدوا في نعمة     زمنا والدهر ريان غدق
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      سكت الدهر زمانا عنهم     ثم أبكاهم دما حين نطق

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان يحيى بن خالد يجري على سفيان بن عيينة كل شهر ألف درهم ، وكان سفيان يدعو له في سجوده يقول : اللهم إنه قد كفاني أمر دنياي فاكفه أمر آخرته . فلما مات يحيى رآه بعض أصحابه في المنام فقال له : ما فعل الله بك؟ قال : غفر لي بدعاء سفيان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد كانت وفاة يحيى بن خالد ، في الحبس بالرافقة لثلاث خلون من المحرم في هذه السنة عن سبعين سنة ، وصلى عليه ابنه الفضل ، ودفن على شط الفرات . وقد وجد في جيبه رقعة مكتوب فيها بخطه : قد تقدم الخصم والمدعى [ ص: 680 ] عليه بالأثر ، والحاكم الحكم العدل الذي لا يجور ، ولا يحتاج إلى بينة . فحملت إلى الرشيد ، فلما قرأها ما زال يبكي يومه ذلك ، وبقي أياما يتبين الأسى في وجهه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال بعض الشعراء في يحيى بن خالد هذا :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      سألت الندا هل أنت حر فقال لا     ولكنني عبد ليحيى بن خالد
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقلت شراء؟ قال لا بل وراثة     توارثني عن والد بعد والد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية