الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ( والقسم الثاني ) الذي ذكره بعض القراء التخفيف الرسمي ذهب إليه جماعة من أهل الأداء كالحافظ أبي عمرو الداني ، وشيخه أبي الفتح فارس بن [ ص: 446 ] أحمد وأبي محمد مكي بن أبي طالب وأبي عبد الله بن شريح وأبي القاسم الشاطبي ، ومن تبعهم على ذلك من المتأخرين . والمراد بالرسم صورة ما كتب في المصاحف العثمانية ، وأصل ذلك عندهم أن سليما روى عن حمزة أنه كان يتبع في الوقف على الهمز خط المصحف ، ومعنى ذلك أن حمزة لا يألو في وقفه على الكلمة التي فيها همز اتباع ما هو مكتوب في المصحف العثماني المجمع على اتباعه . يعني أنه إذا خفف الهمز في الوقف فمهما كان من أنواع التخفيف موافقا لخط المصحف خففه به دون ما خالفه ، وإن كان أقيس ، وهذا معنى قول الداني في " التيسير " : واعلم أن جميع ما يسهله حمزة من الهمزات فإنما يراعى فيه خط المصحف دون القياس كما قدمناه - يعني بما قدمه قوله قبل ذلك - فإن انضمت ، أي الهمزة ، جعلها بين الهمزة والواو نحو قوله : ( فادروا ، وبوسا ، ولا يوده ، ومستهزون ، وليواطوا ، ويا بنوم ) وشبهه ما لم تكن صورتها ياء نحو ( قل أونبيكم ، وسنقريك ، وكان سيئه ) وشبهه فإنك تبدلها ياء مضمومة اتباعا لمذهب حمزة في اتباع الخط عند الوقف ، وهو قول الأخفش - أعني التسهيل في ذلك بالبدل - انتهى . وهو غاية من الوضوح . معنى قوله : دون القياس - أي المجرد عن اتباع الرسم كما مثل به ، وليس معناه : وإن خالف القياس - كما توهمه بعضهم ، فإن اتباع الرسم لا يجوز إذا خالف قياس العربية كما بينا ونبين ، ولا بد حينئذ من معرفة كتابة الهمز ليعرف ما وافق القياس في ذلك مما خالفه ، فاعلم أن الهمزة وإن كان لها مخرج يخصها ولفظ تتميز به فإنه لم يكن لها صورة تمتاز كسائر الحروف ، ولتصرفهم فيها بالتخفيف إبدالا ، ونقلا ، وإدغاما ، وبين بين ، كتبت بحسب ما تخفف به ، فإن كان تخفيفها ألفا ، أو كالألف كتبت ألفا ، وإن كان ياء أو كالياء كتبت ياء ، وإن كان واوا أو كالواو كتبت واوا ، وإن كان حذفا ينقل ، أو إدغاما ، أو غيره حذفت ما لم تكن أولا ، فإن كانت أولا كتبت ألفا أبدا إشعارا بحالة الابتداء إذا كانت فيه لا يجوز تخفيفها بوجه . هذا هو الأصل والقياس في العربية ورسم المصحف [ ص: 447 ] وربما خرجت مواضع عن القياس المطرد لمعنى فمما خرج من الهمز الساكن اللازم في المكسور ما قبله ( ورئيا ) في سورة مريم حذفت صورة همزتها وكتبت بياء واحدة ، قيل : اكتفاء بالكسرة ، والصواب أن ذلك كراهة اجتماع المثلين ؛ لأنها لو صورت لكانت ياء ، فحذفت لذلك كما حذفت من ( و يستحيي و يحيي ) ونحو ذلك ؛ لاجتماع المثلين ، وكتبت ( هيئ لنا و يهيئ لكم ) في بعض المصاحف صورة الهمزة فيها ألفا ؛ من أجل اجتماع المثلين ، إذ لو حذفت لحصل الإجحاف من أجل أن الياء فيهما قبلها مشددة ، نص على تصويرها ألفا فيهما وفي ( ومكر السيئ و المكر السيئ ) الغازي بن قيس في هجاء السنة له ، أنكر الحافظ أبو عمرو الداني كتابة ذلك بألف ، وقال : إنه خلاف الإجماع ، وقال السخاوي : إن ذلك لم يقله أبو عمرو ، عن يقين ، بل عن غلبة ظن وعدم اطلاع ، ثم قال : وقد رأيت هذه المواضع في المصحف الشامي كما ذكره الغازي بن قيس .

                                                          ( قلت ) : وكذلك رأيتها أنا فيه ، وقد نص الشاطبي وغيره على رسم ( هيئ و يهيئ ) بياءين ، والله أعلم .

                                                          وفي المضموم ما قبله ( تووي إليك ، وتوويه ) حذفت صورة الهمزة كذلك ؛ لأنها لو صورت لكانت واوا ، فيجتمع المثلان أيضا كما حذفت في ( داود ، وروي ، و يستوون ) لذلك . وكذلك حذفت في ( رؤياك ، و الرؤيا ، و رؤياي ) في جميع القرآن ، فلم يكتب لها أيضا صورة ؛ لأنها لو صورت في ذلك لكانت واوا ، والواو في الخط القديم الذي كتبت به المصاحف العثمانية قريبة الشكل بالراء ، فحذفت لذلك ، ويحتمل أن تكون كتبت على قراءة الإدغام ، أو لتشمل القراءتين تحقيقا وتقديرا ، وهو الأحسن ، وفي المفتوح ما قبلها ( فاداراتم فيها ) من سورة البقرة حذفت صورة الهمزة منه . ولو صورت لكانت ألفا ، وكذلك حذفت الألف التي قبلها بعد الدال . وإنما حذفا اختصارا وتخفيفا ، أو أنهما لو كتبا لاجتمعت الأمثال ، فإن الألف التي بعد الفاء ثابتة بغير خلاف ؛ تنبيها عليها لأنها ساقطة في اللفظ ، بخلاف الآخرتين ، فإنهما وإن حذفتا خطأ فإن موضعهما معلوم ، إذ لا يمكن النطق بالكلمة [ ص: 448 ] إلا بهما ، وقال بعض أئمتنا : في حذفهما تنبيه على أن اتباع الخط ليس بواجب ليقرأ القارئ بالإثبات في موضع الحذف ، ولا حذف في موضع الإثبات إذا كان ذلك من وجوه القراءات ، وكذلك حذفت صورة الهمزة من ( امتلات ) في أكثر المصاحف تخفيفا . وكذلك ( استاجره ، واستاجرت ) فيما ذكره أبو داود في التنزيل ، وكذلك ( يستأخرون ) في الغيبة والخطاب ، واستثنى بعضهم حرف الأعراف ، ومما خرج من الهمز المتحرك بعد ساكن غير الألف المنشأة في الثلاثة المواضع ، و ( يسألون عن ) في الأحزاب ، و ( موئلا ) في الكهف و ( السوأى ) في الروم و ( أن تبوء ) في المائدة و ( ليسوءوا ) في سبحان ، فصورت الهمزة في هذه الأحرف الخمسة ، وكان قياسها الحذف ، وأن لا تصور ; لأن قياس تخفيفها النقل ويلحق بها ( هزوا ) على قراءة حمزة وخلف و ( كفؤا ) على قراءتهما وقراءة يعقوب ، فـ " النشأة " كتبت بألف بعد الشين بلا خلاف ؛ لاحتمال القراءتين ، فهي قراءة أبي عمرو ومن معه ممن مد صورة المدة ، وفي قراءة حمزة ، ومن معه ممن سكن الشين صورة الهمزة ، و ( يسألون ) اختلفت المصاحف في كتابتها ، ففي بعضها بألف بعد السين ، وفي بعضها بالحذف فما كتبت فيه بألف فهي كالنشأة ؛ لاحتمال القراءتين ، فإنه قرأها بتشديد السين والمد يعقوب من رواية رويس وهي قراءة الحسن البصري وعاصم الجحدري ، وأبي إسحاق السبيعي ، وما كتبت فيه بالحذف فإنها على قراءة الجماعة الباقين ، و ( موئلا ) وأجمع المصاحف على تصوير الهمزة فيه ياء ، وذلك من أجل مناسبة رءوس الآي قبل وبعد نحو ( موعدا و مصرفا و موبقا ) ومحافظة على لفظها ، و ( السوأى ) صورت الهمزة فيها ألفا بعد الواو وبعدها ياء هي ألف التأنيث على مراد الإمالة ، ولما صورت ألف التأنيث لذلك ياء صورت الهمزة قبلها ألفا ؛ إشعارا بأنها تابعة لألف التأنيث في الإمالة ، و ( أن تبوء ) صورت فيه ألفا ولم تصور همزة متطرفة بغير خلاف بعد ساكن في غير هذا الموضع ، و ( ليسوءوا ) مثلها في قراءة حمزة ، ومن معه ، وأما على [ ص: 449 ] قراءة نافع ، ومن معه ، فإن الألف فيها زائدة ؛ لوقوعها بعد واو الجمع كما هي في ( قالوا ) وشبهه وحذف إحدى الواوين تخفيفا لاجتماع المثلين على القاعدة و ( هزوا و كفوا ) فكتبتا على الأصل بضم العين فصورت على القياس ، ولم تكتب على قراءة من سكن تخفيفا على أن هذه الكلمات السبع لم تصور الهمزة فيها صريحا إلا في ( موئلا ) قطعا ، وفي ( أن تبوء بإثمي ) في أقوى الاحتمالين ، وذكر الحافظ أبو عمرو الداني ( لتنوء بالعصبة ) في القصص مما صورت الهمزة فيه ألفا مع وقوعها متطرفة بعد ساكن ، وتبعه على ذلك الشاطبي ، فجعلها أيضا مما خرج عن القياس ، وليس كذلك ، فإن الهمزة من ( لتنوء ) مضمومة ، فلو صورت لكانت واوا كما صورت المكسورة في ( موئلا ) ياء كالمفتوحة ، وفي ( تبوء و النشأة والسوأى ، ) والصواب أن صورة الهمزة منها محذوف على القياس ، وهذه الألف وقعت زائدة كما كتبت في ( يعبؤا ) و ( تفتؤا ) و ( لؤلؤا ) و ( إن امرؤ ) تشبيها بما زيد بعد واو الجمع ، وهذا محتما أيضا في ( أن تبوء بإثمي ) والله أعلم .

                                                          وذكر بعضهم في هذا الباب ( لا تايسوا من روح الله إنه لا ييأس ) ، و أفلم ييأس الذين وليس كذلك ، فإن الألف في هذه المواضع الثلاثة لا تعلق لها بالهمز ، بل تحتمل أمرين : إما أن تكون رسمت على قراءة ابن كثير وأبي جعفر من روايتي البزي وابن وردان كما تقدم في باب الهمز المفرد ، والأمر الثاني : أنه قصد بزيادتها أن يفرق بين هذه الكلمات وبين يئس ويئسوا ، فإنها لو رسمت بغير زيادة لاشتبهت بذلك ، ففرق بين ذلك بألف كما فرق بزيادة الألف في مائة للفرق بينه وبين منه ، ولتحتمل القراءتين أيضا ، وكذلك زيادة الألف في : ( لشآي ) في الكهف ، أو فيها وفي غيرها ، وفي وجيء لا مدخل لها هنا ، والله تعالى أعلم . وأما ( المؤدة ) فرسمت بواو واحدة لاجتماع المثلين وحذفت صورة الهمزة فيها على القياس ، وكذلك في ( مسؤلا ) والعجب من الشاطبي كيف ذكر ( مسؤلا ) مما حذفت منه إحدى الواوين ، وكذلك حذف ألف قرآنا في أول سورة يوسف والزخرف بعد الهمزة كما كتبت في بعض المصاحف ، فما حذف اختصارا للعلم به فليس من [ ص: 450 ] هذا الباب ، وكذلك حذف في بعضها من وقرآنا فرقناه في سبحان . و قرآنا عربيا في الزمر ، فكتبت : ( ق . ر . ن ) فحذف غير ذلك من الألفات للتخفيف ، وخرج من الهمز المتحرك بعد الألف من المتوسط أصل مطرد وكلمات مخصوصة . فالأصل المطرد مما اجتمع فيه مثلان فأكثر ، وذلك في المفتوحة مطلقا نحو ( ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم ، وما جعل أدعياءكم أبناءكم ، وما كانوا أولياءه ، و دعاء ونداء ، و ماء ، و ملجأ ، و خطأ ) ومن المضمومة إذا وقع بعد الهمزة واو نحو ( جاءوكم ، و يراءون ) وفي المكسورة إذا وقع بعدها ياء نحو ( إسرائيل ) ومن ( وراي و شركاي والاي ) في قراءة حمزة كما تقدم ، فلم يكتب للهمز في ذلك صورة ؛ لئلا يجمع بين صورتين ، والكلمات المخصوصة أولياؤهم الطاغوت في البقرة ، و أولياؤهم من الإنس في الأنعام ، وفيها ليوحون إلى أوليائهم وفي الأحزاب إلى أوليائكم وفي فصلت نحن أولياؤكم فكتب في أكثر مصاحف أهل العراق محذوف الصورة ، وفي سائر المصاحف ثابتا . وحكى ابن المنادي وغيره أن في بعض المصاحف ( إن أولياؤه ) في الأنفال محذوف أيضا ، وأجمعت المصاحف على حذف ألف البينة قبل الهمز في ذلك كله ونحوه ، والله أعلم . وإنما حذفت صورة الهمز من ذلك ; لأنه لما حذفت الألف من المخفوض اجتمع الصورتان ، فحذفت صورة الهمز لذلك ، وحمل المرفوع عليه ، وفي إن أولياؤه ليناسب وما كانوا أولياءه والله تعالى أعلم ، واختلف أيضا في " جزاؤه " الثلاثة الأحرف من يوسف . فحكى حذف صورة الهمزة فيها الغازي بن قيس في كتابه " هجاء السنة " ، ورواه الداني في مقنعه عن نافع ، ووجه ذلك قرب شبه الواو من صورة الزاي في الخط القديم كما فعلوا في الرؤيا ، فحذفوا صورة الهمزة لشبه الواو بالراء ، والله أعلم .

                                                          وأجمعوا على رسم " تراء " من قوله تعالى : فلما تراء الجمعان في الشعراء بألف واحدة ، واختلف علماؤنا في الألف الثابتة والمحذوفة هل الأولى أم الثانية ؟ فذهب الداني إلى أن المحذوفة [ ص: 451 ] هي الأولى ، وأن الثانية هي الثابتة ، ووجه بثلاثة أوجه : أحدها أن الأولى زائدة ، والثانية أصلية ، والزائد أولى بالحذف ، والأصلي أولى بالثبوت . والثاني أنهما ساكنان ، وقياسه تغيير الأولى . والثالث أن الثانية قد أعلت بالقلب ، فلا تعل ثانيا بالحذف ؛ لئلا يجتمع عليها إعلالان . وذهب غيره إلى أن الثانية هي الأولى ، وأن الثانية هي المحذوفة ، واستدلوا بخمسة أوجه :

                                                          أحدها أن الأولى تدل على معنى وليست الثانية كذلك ، فحذفها أولى . والثاني أن الثانية طرف ، والطرف أولى بالحذف . والثالث أن الثانية حذفت في الوصل لفظا ، فناسب أن تحذف خطا . والرابع أن حذف إحدى الألفين إنما سببه كراهية اجتماع المثلين ، والاجتماع إنما يتحقق بالثانية ، فكان حذفها أولى . والخامس أن الثانية لو ثبتت لرسمت ياء ؛ لأنها قياسها لكونها منقلبة عن ياء ، وأجابوا عن الأولى بأن الزائد إنما يكون أولى بالحذف من الأصلي إذا كانت الزيادة لمجرد التوسع ، أما إذا كانت للأبنية فلا . وعن الثاني بأنها لم تحذف لالتقاء الساكنين ، بل للمثلين ، وأيضا فقد غير الثاني لالتقاء الساكنين كثيرا ، وعن الثالث بأن محل القلب اللفظ ، ومحل الحذف الخط ، فلم يتعدد الإعلال في واحد منهما ، وخرج من المتطرف بعد الألف كلمات وقعت الهمزة فيها مضمومة ومكسورة ، فالمضمومة منها ثمان كلمات كتبت الهمزة فيها واوا بلا خلاف ، وهي ( شركاء ) في الأنعام ( أنهم فيكم شركؤا ) ، وفي الشورى ( أم لهم شركؤا ) ونشاء في هود ( أو أن نفعل في أموالنا ما نشؤا ) ، والضعفاء في إبراهيم ( فقال الضعفؤا ) ، وشفعاء في الروم ( من شركائهم شفعؤا ) ، و دعاء في غافر ( وما دعاؤا الكافرين ) ، والبلاء في الصافات ( إن هذا لهو البلؤا المبين ) ، وفي الدخان ( بلؤا مبين ) ، وبرآء في الممتحنة ( إنا برؤاء ) ، وجزاء في الأولين من المائدة ( وذلك جزؤا الظالمين ) و ( إنما جزؤا الذين ) ، وفي الشورى ( وجزؤا سيئة ) ، وفي الحشر ( وذلك جزؤا الظالمين ) ، واختلف في أربع ، وهي جزاء المحسنين في الزمر ، و جزاء من تزكى في طه ، و جزاء الحسنى في الكهف وفي علماء بني إسرائيل في الشعراء ، [ ص: 452 ] و ( إنما يخشى الله من عباده العلمؤا ) في فاطر ، وفي ( أنباؤا ما كانوا به ) في الأنعام والشعراء . فما كتب من هذه الألفاظ بالواو ، فإن الألف قبله تحذف اختصارا ، وتلحق بعد الواو منه ألف تشبيها بواو يدعوا ، وقالوا : وما لا يكتب فيه صورة الهمزة فإن الألف فيه تثبت لوقوعها طرفا والمكسورة صورت الهمزة فيه ياء في أربع كلمات بغير خلاف ، وهي ( من تلقاي نفسي ) في يونس و ( إيتاي ذي القربى ) في النحل ، و ( من آناي الليل ) في طه ، و ( أو من وراي حجاب ) في الشورى ، والألف قبلها ثابتة فيها ، ولكن حذفت في بعض المصاحف من ( تلقاي نفسي ) ، و ( إيتاي ذي القربى ) قال السخاوي قد رأيت في المصحف الشامي الألف محذوفة من ( تلقي نفسي ) ، ومن ( ايتي ذي القربى ) كما كتبت إلى بغير ألف ، وثابتة في آناي الليل ، ووراي حجاب . انتهى . واختلف في ( بلقاي ربهم ، ولقاي الآخرة ) الحرفين في الروم ، فنص الغازي بن قيس على إثبات الياء فيهما ، وقال الداني : ومصاحف أهل المدينة على ما رواه الغازي بن قيس بالياء . وقال السخاوي : وقد رأيت الحرف الأول من بلقاء ربهم بغير ياء ، ورأيت الحرف الثاني " ولقاي الآخرة " بالياء . وأما اللاي فإنها كتبت في السور الثلاث ( إلى ) على صورة " إلى الجارة لتحتملها القراءات الأربع . فالألف حذفت اختصارا كما حذفت من تلقاء نفسي وبقيت صورة الهمزة عند من حذف الياء وحقق الهمزة ، أو سهلها بين بين ، وصورة الياء عند من أبدلها ياء ساكنة ، وأما عند وقف حمزة ، ومن معه ممن أثبت الهمزة والياء جميعا ، فحذفت إحدى الياءين لاجتماع الصورتين ، والظاهر أن صورة الهمزة محذوفة ، والثابت هو الياء ، والله أعلم .

                                                          وخرج من الهمز المتحرك المتطرف المتحرك ما قبله بالفتح كلمات وقعت الهمزة فيها مضمومة ومكسورة . فالمضمومة عشرة كتبت الهمزة فيها واوا ، وهي ( تفتوا ) في يوسف ، و ( يتفيوا ) في النحل ، و ( أتوكوا ) و ( لا تظموا ) كلاهما في طه ، و ( يدروا عنها ) في النور ، و ( يعبوا ) في الفرقان ، و ( الملا ) في أول المؤمنين ، وهو فقال الملأ الذين كفروا من قومه [ ص: 453 ] في قصة نوح ، وفي المواضع الثلاثة في النمل ، وهي ( الملوا اني ) ( والملوا فتواني ) ( والملوا ايكم ) و ( ينشوا في الحلية ) في الزخرف ( ونبو ) في غير حرف براءة ، وهو في إبراهيم ( نبوا الذين ) ، وكذلك في التغابن ، و ( نبوا عظيم ) في ص ، و ( نبوا الخصم ) فيها ، إلا أنه في بعض المصاحف كتب بغير واو ، و ( ينبوا الإنسان ) في القيامة على اختلاف فيه ، وزيدت الألف بعد الواو في هذه المواضع تشبيها بالألف الواقعة بعد واو الضمير ، والمكسورة موضع واحد صورت الهمزة فيه ياء ، وهي ( من نباي المرسلين ) في الأنعام ، إلا أن الألف زيدت قبلها ، وقد قيل : إن الألف هي صورة الهمزة في ذلك ، وإن الياء زائدة ، والأول هو الأولى ، بل الصواب . فإن الهمزة المضمومة من ذلك صورت واوا بالاتفاق ، فحمل المكسورة على نظيرها أصح ، وأيضا فإن الألف زيدت قبل الياء رسما في ( لشاي ) من سورة الكهف ، وفي " جيء " لغير موجب فزيادتها هنا لموجب الفتحة بعد الهمزة أولى ، وأيضا فإن الكتاب أجمعوا على زيادة الألف في ( ماية ) قبل الياء ليفرقوا بينها وبين منه ، وحمل علماء الرسم الألف في ياء ( يس ) على ذلك للفرق بينها وبين ( بيس ) مع وجود القراءة بهذه الصورة ، فحملها هنا للفرق بينها وبين بني ونبي أولى ، والله أعلم . وتقدم ذكر ( السيئ ) في موضعي فاطر وحكاية الغازي وغيره أن صورة الهمزة فيه كتبت ألفا على غير قياس ، وإنكار الداني ذلك وأنها كتبت ياء على القياس . ووجه رسم ما تقدم من مضموم المتطرف واوا ومكسوره ياء تنبيها على وجه تخفيفها وفقا لذلك على لغة من يقف عليه بذلك كما قدمناه . وقيل : تقوية للهمزة في الخط كما قويت في اللفظ بحرف المد . وقيل : اعتناء ببيان حركتها ، وقيل : إجراء للمتطرف في مجرى المتوسط باعتبار وصله بما بعده ، كما أجروا بعض الهمزات المبتدآت لذلك ، والأول هو الصواب ؛ لظهور فائدته وبيان ثمرته ، والله تعالى أعلم ، وخرج من الهمز المتوسط المتحرك بعد متحرك أصل مطرد ، وهو ما وقع بعد الهمزة فيه [ ص: 454 ] واوا أو ياء ، فلم ترسم في ذلك صورة ، وذلك نحو ( مستهزون ) و ( صابون ) و ( مالون ) و ( يستنبونك ) و ( ليطفو ) و ( بروسكم ) و ( يطون ) ونحو ( خاسين ) و ( صابين ) و ( متكين ) ، وذلك إما لاجتماع المثلين على القاعدة المألوفة رسما ، أو على لغة من يسقط الهمزة رأسا ، أو لتحتمل القراءتين إثباتا وحذفا ، والله أعلم . وكذلك حذفوها من ( سيات ) في الجمع نحو ( كفر عنهم سياتهم ) ، و ( اجترحوا السيات ) لاجتماع المثلين ، وعرضوا عنها إثبات الألف على غير قياسهم في ألفات جمع التأنيث ، وأثبتوا صورتها في المفرد ( سيئة ) ، و ( سيئا ) وجمعوا بين صورتها وألف الجمع في المنشآت ، وخرج من ذلك الهمزة المضمومة بعد كسر ما لم يكن بعدها واو نحو ( ولا ينبيك ) ، و ( سنقريك ) فلم يرسم على مذهب الجادة بواو ، بل رسم على مذهب الأخفش بالياء ورسم عكسه سئل و سئلوا على مذهب الجادة ، ولم يرسم على مذهب الأخفش ، واختلف من المفتوح بعد الفتح في ( اطمانوا ) ، وفي ( لاملن ) أعني التي قبل النون ، وفي : ( اشمزت ) فرسمت في بعض المصاحف بالألف على القياس ، وحذفت في أكثرها على غير قياس تخفيفا واختصارا إذا كان موضعها معلوما ، وكذلك اختلفوا في ( ارايت ) و ( اريتم ) و ( اريتكم ) في جميع القرآن ، فكتب في بعض المصاحف بالإثبات ، وفي بعضها بالحذف ، إما على الاختصار أو على قراءة الحذف ، وذكر بعضهم الحذف في سورة الدين فقط ، وذكره بعضهم فيها وفي ( أريتم ) فقط ، والصحيح إجراء الخلاف في الجميع ، والله أعلم .

                                                          وأما ( نأى ) في سبحان وفصلت فإنه رسم بنون وألف فقط ؛ ليحتمل القراءتين ، فعلى قراءة من قدم حرف المد على الهمز ظاهر ، وعلى قراءة الجمهور قد رسم الألف المنقلبة ألفا فاجتمع حينئذ ألفان فحذف إحداهما ، ولا شك عندنا أنها المنقلبة ، وأن هذه الألف الثابتة هي صورة الهمزة كما سيأتي بيانه ، وكذلك رأى كتب في جميع القرآن براء وألف لا غير ، والألف فيه صورة الهمزة كذلك وكتب في موضعي النجم وهما ما كذب الفؤاد ما رأى ، لقد رأى من آيات ربه الكبرى بألف بعدها ياء على لغة الإمالة فجمع [ ص: 455 ] في ذلك بين اللغتين ، والله أعلم .

                                                          وأما رسم ( ماية ) و ( مايتين ) و ( ملايه ) و ( ملايهم ) بالألف قبل الياء ، فالألف في ذلك زائدة كما قدمنا ، والياء فيه صورة الهمزة قطعا ، والعجب من الداني والشاطبي ومن قلدهما كيف قطعوا بزيادة الياء في ( ملايه ) و ( ملايهم ) فقال الداني في مقنعه : وفي مصاحف أهل العراق وغيرها و ( ملايه ) و ( ملايهم ) حيث وقع بزيادة ياء بعد الهمزة ، قال : كذلك رسمها الغازي بن قيس في كتاب " هجاء السنة " الذي رواه عن أهل المدينة ، قال السخاوي : وكذلك رأيته في المصحف الشامي .

                                                          ( قلت ) : وكذلك في جميع المصاحف ، ولكنها غير زائدة ، بل هي صورة الهمزة ، وإنما الزائدة الألف ، والله أعلم .

                                                          وخرج من الهمز الواقع أولا كلمات لم تصور الهمزة فيه ألفا كما هو القياس فيما وقع أولا ، بل صورت بحسب ما تخفف به حالة وصلها بما قبلها ؛ إجراء للمبتدأ في ذلك مجرى المتوسط ، وتنبيها على جواز التخفيف جمعا بين اللغتين ، فرسمت المضمومة في ( أونبيكم ) بالواو بعد الألف ، ولم ترسم في نظيرها ( أأنزل أألقي ) بل كتبا بألف واحدة للجمع بين الصورتين ، وكذلك سائر الباب نحو ( أأنذرتهم ، أأنتم ، أأشفقتم ، أأمنتم من ، أألله أذن ) وكذلك ما اجتمع فيه ثلاث ألفات لفظا نحو أآلهتنا ، وكذلك إذا أإنا إلا مواضع كتبت بياء على مراد الوصل كما سنذكره ، ورسم " هؤلاء " بواو ، ثم وصل بها التنبيه بحذف ألفه كما فعل في ( يأيها ) ، ورسم ( يابنوم ) في طه بواو ، ووصل بنون ( ابن ) ثم وصلت ألف ابن بياء النداء المحذوفة الألف ، فالألف التي بعد الياء هي ألف ( ابن ) هذا هو الصواب كما نص عليه أبو الحسن السخاوي ، نقله عن المصحف الشامي رؤية ، وكذلك رأيتها أنا فيه غير أن بها أثر حك أظنه وقع بعد السخاوي ، والله أعلم .

                                                          ( وهذا المصحف ) الذي ينقل عنه السخاوي ويشير إليه بالمصحف الشامي هو بالمشهد الشرقي الشمالي الذي يقال له مشهد علي بالجامع الأموي من دمشق المحروسة . وأخبرنا شيوخنا الموثوق بهم أن هذا المصحف كان أولا بالمسجد المعروف بالكوشك داخل دمشق الذي جدد [ ص: 456 ] عمارته الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي - رحمه الله - وأن السخاوي - رحمه الله - كان سبب مجيئه إلى هذا المكان من الجامع ، ثم إني أنا رأيتها كذلك في المصحف الكبير الشامي الكائن بمقصورة الجامع الأموي المعروف بالمصحف العثماني ، ثم رأيتها كذلك بالمصحف الذي يقال له : الإمام ، بالديار المصرية ، وهو الموضوع بالمدرسة الفاضلية داخل القاهرة المعزية ، وكتبت الهمزة من أم في ( ابن أم ) في الأعراف ألفا مفصولة ، وأما ( هاؤم اقروا ) في الحاقة فالهمزة فيه ليست من هذا الباب ، فلم تكن كالهمزة من ( هؤلاء وهانتم ) ; لأن همزة هاؤم حقيقية ؛ لأنها تتمة كلمة " هاء " بمعنى خذ ، ثم اتصل بها ضمير الجماعة المتصل وهؤلاء ( وهانتم ) الهاء فيه للتنبيه دخلت على أولاء ، وعلى أنتم فتسهل همزة ( هاوم ) بلا خلاف بين بين ويوقف ( هاوم ) على الميم بلا نظر ، وقد منع أبو محمد مكي الوقف عليها ظنا منه أن الأصل ( هاومو ) بواو ، وإنما كتبت على لفظ الوصل فحذفت لالتقاء الساكنين كما حذفت في سندع الزبانية فقال : لا يحين الوقف عليه ؛ لأنك إن وقفت على الأصل بالواو خالفت الخط ، وإن وقفت بغير واو خالفت الأصل ، وذكر الشيخ أبو الحسن السخاوي في شرحه معنى ذلك ، وذلك سهو بين ، فإن الميم في ( هاوم ) مثل الميم في ( أنتم ) الأصل فيهما الصلة بالواو على ما تقدم في قراءة ابن كثير وأبي جعفر ورسم المصحف في جميع ذلك بحذف الواو فيما ليس بعده ساكن ، فما بعده ساكن أولى فالوقف على الميم لجميع القراء ، وإذا كان الذي يصل ميم الجمع بواو في الوصل لا يقف بالواو على الأصل فما الظن بغيره . وهذا مما نبه عليه الأستاذ أبو شامة - رحمه الله - ورسم ( لاصلبنكم ) في طه والشعراء وفي بعض المصاحف بالواو بعد الألف ، وكذلك ( ساوريكم ) فقطع الداني ومن تبعه بزيادة الواو في ذلك ، وإن صورة الهمزة هو الألف قبلها ، والظاهر أن الزائد في ذلك هو الألف ، وأن صورة الهمزة هو الواو ، كتبت على مراد الوصل تنبيها على التخفيف ، والدليل على ذلك زيادة الألف بعد اللام في نظير ذلك وهو ( لا اذبحنه ) و ( لا اوضعوا ) ، وكذلك إذا خففنا الهمزة [ ص: 457 ] في ذلك فإنا نخففها بين الهمزة والواو كما أنا إذا خففناها في هذا نخففه بين الهمزة والألف ، فدل على زيادة الألف في كل ذلك ، والله أعلم . " نعم " زيدت الواو بإجماع من أئمة الرسم والكتابة في أولي للفرق بينها وبين ( إلى ) الجارة ، وفي أولئك للفرق بينها وبين ( إليك ) واطردت زيادتها في ( أولوا ) و ( أولات ) ، و ( أولاء ) حملا على أخواته ، وهي في ( ياأولي ) تحتمل الزيادة ، وهو الظاهر لزيادتها في نظائرها ، وتحتمل أن تكون الواو صورة الهمزة كما كتبت في هؤلاء ، وتكون الألف ألف ياء ، وهو بعيد ؛ لاطراد حذف الألف من ياء حرف النداء ، ولكن إذا أمكن الحمل على عدم الزيادة بلا معارض فهو أولى ، والله أعلم .

                                                          ورسمت المكسورة في : ( لين ) ، ( ويوميذ ) ، ( وحينيذ ) ياء موصولة بما قبلها كلمة واحدة . وكذلك صورت في ( اينكم ) في الأنعام والنمل ، والثاني من العنكبوت وفصلت ( و أين لنا ) في الشعراء ( و أينا لمخرجون ) في النمل و ( أينا لتاركوا ) في الصافات و ( ايذا متنا ) في الواقعة ، وكذا رسم ( أين ذكرتم ) في يس و ( ايفكا ) في الصافات في مصاحف العراق ورسما في غيرها بألف واحدة ، وكذلك سائر الباب ، والله أعلم .

                                                          وأما " أيمة " فليست من هذا الباب ، وإن كان قد ذكرها الشاطبي وغيره فيه ، فإن الهمزة فيه ليست أولا ، وإن كانت فاء ، بل هي مثلها في يئن ويئط ، وكذلك في ( ييس ) ، وإن كانت عينا فرسمها ياء على الأصل ، وهذا مما لا إشكال فيه ، والله أعلم .

                                                          وحذفت الهمزة المفتوحة بعد لام التعريف من كلمتين ، إحداهما ( الآن ) في موضعي يونس وفي جميع القرآن إجراء للمبتدأ مجرى المتوسطة ، وذلك باعتبار لزوم هذه الكلمة الأداة ، واختلف في الذي في سورة الجن وهو : ( فمن يستمع الآن ) فكتب في بعضها بألف ، وهذه الألف هي صورة الهمزة ، إذ الألف التي بعدها محذوفة على الأصل اختصارا ، والثانية ( الايكة ) في الشعراء وص رسمت في جميع المصاحف بغير ألف بعد اللام ، وقبلها لاحتمال القراءتين فهي على قراءة أهل الحجاز والشام ظاهرة تحقيقا ، وعلى قراءة الكوفيين والبصريين [ ص: 458 ] تحتمل تقديرا على اللفظ ومراد النقل . ورسم ( أفاين مات ) في آل عمران ( أفاين مت ) في الأنبياء بياء بعد الألف . فقيل : إن الياء زائدة ، والصواب زيادة الألف كما أذكره ، ورسم ( باييد ، وباييكم ) بألف بعد الباء وبياءين بعدها ، فقيل : إن الياء الواحدة زائدة ، ولا وجه لزيادتها هنا ، والصواب عندي - والله أعلم - أن الألف هي الزائدة كما زيدت في مائة ومائتين ، والياء بعدها هي صورة الهمزة كتبت على مراد الوصل وتنزيلا للمبتدأة منزلة المتوسطة كغيرها ، وأما ( باية ، وباياتنا ) فرسم في بعض المصاحف بألف بعد الياء وياءين بعدها ، فذهب جماعة إلى زيادة الياء الواحدة ، وقال السخاوي : وقد رأيته في المصاحف العراقية ( بايية ، وباييتنا ) بياءين بعد الألف ، ولم أر فيها غير ذلك . ثم رأيته في المصحف الشامي كذلك بياءين ، قال : إنما كتبت ذلك على الإمالة ، فصورت الألف الممالة ياء ، وحذفت الألف التي بعد الياء الثانية من ( بآية ، وبآياتنا ) كما حذفت من ( آيات ) انتهى . وقوله : حذفت الألف التي بعد الياء الثانية من ( بآية ) فيه نظر ; لأنه ليس بعد الياء في ( بآية ) ألف ، إنما الألف التي بعد الياء في ( بآياتنا ) ، ولو قال : الألف التي بعد الهمزة في ( بآية ) والألف التي بعد الياء في ( بآياتنا ) لكان ظاهرا . ولعله أراد ذلك فسبق قلمه ، أو لعله إنما رأى بـ " آية " الجمع مثل ( بآياتنا ) ، وعليه يصح كلامه ، ولكن سقط من الناسخ سنة ، والله أعلم .

                                                          ( فهذا ) ما علمناه خرج من رسم الهمز عن القياس المطرد ، وأكثره على قياس مشهور ، وغالبه لمعنى مقصود ، وإن لم يرد ظاهره فلا بد له من وجه مستقيم يعلمه من قدر للسلف قدرهم وعرف لهم حقهم . وقد كان بعض الناس يقول في بعض ما خرج عما عرفه من القياس : هو عندنا مما قال فيه عثمان - رضي الله عنه - : أرى في المصاحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها . وقال الحافظ أبو عمرو الداني : ولا يجوز عندنا أن يرى عثمان - رضي الله عنه - شيئا في المصحف يخالف رسم الكتابة مما لا وجه له فيها فيقره على حاله ويقول : إن في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها ، ولو جاز ذلك لم يكن للكتابة معنى ولا فائدة ، بل كانت تكون وبالا لاشتغال [ ص: 459 ] القلوب بها ، ثم قال : وعلة هذه الحروف وغيرها من الحروف المرسومة في المصحف على خلاف ما جرى به رسم الكتاب من الهجاء - الانتقال من وجه معروف مستفيض إلى وجه آخر مثله في الجواز والاستعمال ، وإن كان المنتقل عنه أكثر استعمالا . انتهى . والأثر فقد رواه الحافظ أبو بكر بن أبي داود بألفاظ مضطربة مختلفة وكلها منقطعة لا يصح شيء منها ، وكيف يصح أن يكون عثمان - رضي الله عنه - يقول ذلك في مصحف جعل للناس إماما يقتدى به ، ثم يتركه لتقيمه العرب بألسنتها ويكون ذلك بإجماع من الصحابة حتى قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : لو وليت من المصاحف ما ولي عثمان لفعلت كما فعل . وأيضا فإن عثمان - رضي الله عنه - لم يأمر بكتابة مصحف واحد ، إنما كتب بأمره عدة مصاحف ، ووجه كلا منها إلى مصر من أمصار المسلمين ، فماذا يقول أصحاب هذا القول فيها ؟ أيقولون : إنه رأى اللحن في جميعها متفقا عليه فتركه لتقيمه العرب بألسنتها أم رآه في بعضها ؟ فإن قالوا في بعض دون بعض ، فقد اعترفوا بصحة البعض ولم يذكر أحد منهم ولا من غيرهم أن اللحن كان في مصحف دون مصحف ، ولم تأت المصاحف مختلفة إلا فيما هو من وجوه القراءات وليس ذلك بلحن ، وإن قالوا : رآه في جميعها لم يصح أيضا ، فإنه يكون مناقضا لقصده في نصب إمام يقتدى به على هذه الصورة ، وأيضا فإذا كان الذين تولوا جمعه وكتابته لم يقيموا ذلك وهم سادات الأمة وعلماؤها ، فكيف يقيمه غيرهم .

                                                          وإنما قصدنا استيعاب ما رسم في ذلك مما يتعلق بالهمز لأنا لما أتينا على تحقيقه على مذاهب أهل العربية ، وكان منه ما صح نقلا وما لا يصح تعين أن تأتي على رسم الهمز لنذكر ما يصح أيضا مما لا يصح . قال الذين أثبتوا الوقف بالتخفيف الرسمي : اختلفوا في كيفيته اختلافا شديدا ، فمنهم من خصه بما وافق التخفيف القياسي ولو بوجه كما ذهب إليه محمد بن واصل وأبو الفتح فارس بن أحمد ، وصاحبه أبو عمرو الداني ، وابن شريح ، ومكي والشاطبي ، وغيرهم . فعلى قول هؤلاء [ ص: 460 ] إذا كان في التخفيف القياسي وجه راجح ، وهو مخالف ظاهر الرسم ، وكان الوجه الموافق ظاهره مرجوحا كان هذا الموافق الرسم هو المختار ، وإن كان مرجوحا باعتبار التخفيف القياسي فقد يكون ذلك بالواو المحضة نحو ( يعبوا ، والبلوا ، وهزوا ، و كفوا ) مما كتب بالواو . وقد يكون بالياء المحضة نحو ( من نباي المرسلين ، ومن أناي الليل ) مما كتب بالياء ، وقد يكون بالألف نحو ( النشاة ) مما كتب بألف . وقد يكون بين بين نحو ما مثلنا به عند من وقف عليه بالروم الموافق للمصحف كما سيأتي ، ونحو ( سنقريك ، وسيية ) ، ونحو ( هؤلاء و أينكم ) عند جمهورهم ، ونحو ( يابنوم ، ويوميذ ) ، ونحو ( السواى ، ومويلا ) على رأي . وقد يكون بالحذف نحو : ( يستهزون و المنشيون ، وخاسيين و متكيين و دعاء ونداء و ملجأ ) وقد يكون بالنقل نحو ( أفيدة ، ومسولا ، والظمان ) وقد يكون بالنقل والإدغام نحو ( شيا ، وسوا ) وقد يكون بالإدغام نحو ( رءيا ، وتؤي ) ، ونحو ( روياك ، والرويا ) عند بعضهم . وهذا هو الرسم القوي ، وقد يقال له : الصحيح ، وقد يقال : المختار . قال أبو عبد الله بن شريح في كافيه : الاختيار عند القراء الوقف لحمزة على المهموز بتسهيل لا يخالف المصحف . وقال الحافظ أبو عمرو الداني في جامعه : وقد اختلف علماؤنا في كيفية تسهيل ما جاء من الهمز المتطرف مرسوما في المصحف على نحو حركته ، كقوله : ( فقال الملؤا الذين كفروا ) وهو الحرف الأول من سورة المؤمنين ، وكذلك الثلاثة الأحرف من النمل . وكذلك ( تفتوا ، ونشوا ) ، وما أشبهه مما صورت الهمزة فيه واوا على حركتها ، أو على مراد الوصل ، وكذلك : ( من نباي المرسلين ) وشبهه مما رسمت فيه ياء على ذلك أيضا ، فقال بعضهم : تسهيل الهمزة في جميع ذلك على حركة ما قبلها فتبدل ألفا ساكنة حملا على سائر نظائره وإن اختلفت صورتها فيه ؛ إذ ذاك هو القياس قال : وكان هذا مذهب شيخنا أبي الحسن - رحمه الله . وقال آخرون : تسهل الهمزة في ذلك بأن تبدل بالحرف الذي منه حركتها موافقة على رسمها ، تبدل واوا ساكنة في قوله : ( الملوا ) وبابه ، [ ص: 461 ] وتبدل ياء ساكنة في قوله : ( من نباي المرسلين ) ونحوه . قال : وهذا كان مذهب شيخنا أبي الفتح - رحمه الله - وهو اختياري أنا ، وإن كان المذهب الأول هو القياس فإن هذا أولى من جهتين : أحدهما أن أبا هشام وخلفا رويا ، عن حمزة نصا أنه كان يتبع في الوقف على الهمزة خط المصحف ، فدل على أن وقفه على ذلك كان بالواو وبالياء على حال رسمه دون الألف لمخالفتهما إياه ، والجهة الثانية أن خلفا قد حكى ذلك عن حمزة منصوصا ، ثم حكى ذلك ثم قال : وهذه الكلم في المصاحف مرسومة بالياء والواو . ومع هاتين الجهتين فإن إبدال الهمزة بالحرف الذي منه حركتها دون حركة ما قبلها في الوقف خاصة في نحو ذلك لغة معروفة حكاها سيبويه وغيره من النحويين ، قال سيبويه : يقولون في الوقف : هذا الكلو ، فيبدلون من الهمزة واوا ، و : مررت بالكلي ، فيبدلون منها ياء ، و : رأيت الكلا ، فيبدلون منها ألفا حرصا على البيان . قال - يعني سيبويه - : وهم الذين يحققون في الوصل . قال الداني : فواجب استعمال هذه اللغة في مذهب هشام وحمزة في الكلم المتقدمة ؛ لأنهما من أهل التحقيق في الوصل كالعرب الذين جاء عنهم ذلك . انتهى . وقال أيضا : وقد اختلف أهل الأداء في إدغام الحرف المبدل من الهمزة وفي إظهاره في قوله : ( وتؤوي إليك ) و ( التي تؤويه ) ، وفي قوله : ( روحا ) فمنهم من رأى إدغامه موافقة للخط ، ومنهم من رأى إظهاره لكون البدل عارضا ، فالهمزة في التقدير والنية ، وإدغامها ممتنع ، قال : والمذهبان في ذلك صحيحان ، والإدغام أولى ; لأنه قد جاء منصوصا عن حمزة في قوله : ( روحا ) لموافقة رسم المصحف الذي جاء عنه اتباعه عند الوقف على الهمز ، ومنهم من عمم في التخفيف الرسمي فأبدل الهمزة بما صورت به وحذفها فيما حذفت فيه ، فيبدلها واوا خالصة في نحو ( روف ) ( أبناوكم ) و ( توزهم ) ، و ( شركاوكم ) ، و ( يذروكم ) ، و ( نساوكم ) ، و ( أحباوه ) ، و ( هولاء ) ويبدلها ياء خالصة في نحو ( تايبات ) ( سايحات ) و ( نسايكم ) و ( أبنايكم ) و ( خايفين ) و ( أوليك ) و ( جاير ) و ( مويلا ) و ( لين ) ويبدلها ألفا خالصة في نحو ( سال ) و ( امراته ) و ( سالهم ) و ( بداكم ) [ ص: 462 ] و ( اخاه ) وحذفها في نحو ( وما كانوا أولياه إن أولياوه ، إلى أوليايهم ) ، ويقول في ( فاداراتم : فادارتم ) ، وفي ( امتلأت : امتلت ) ، وفي ( اشمأزت : اشمازت ، واشمزت ) ، وفي ( أأنذرتهم : أنذرتهم ) ، وفي ( الموءودة : المودة ) على وزن الموزة ( ولا يبالون ) ورد ذلك على قياس أم لا ، صح ذلك في العربية أم لم يصح ، اختلت الكلمة أم لم تختل ، فسد المعنى أم لم يفسد ، وبالغ بعض المتأخرين من شراح قصيدة الشاطبي في ذلك حتى أتى بما لا يحل ولا يسوغ . فأجاز في نحو ( رأيت ، وسألت : رايت وسالت ) فجمع بين ثلاث سواكن ، ولا يسمع هذا إلا من اللسان الفارسي ، وأجاز في نحو ( يجأرون : يجرون ) ( ويسألون : يسلون ) فأفسد المعنى وغير اللفظ ، وفي برآء - بروا فغير المعنى وأفسد اللفظ ، وأتى بما لا يسوغ ، ورأيت فيما ألفه ابن بصخان في وقف حمزة أن قال : وما رسم منه بالألف وقف عليه بها نحو ( وأخاه ، بأنهم ) ، وكنت أظن أنه إنما قال : ( فآتهم ) على ما فيه حتى رأيته بخطه ( بانهم ) فعلمت أنه يريد أن يقال في الوقف ( بانهم ) فيفتح الباء التي قبل الهمزة ، إذ لا يمكن أن ينطق بالألف بعدها إلا بفتحها ، ثم يمد على الألف من أجل التقاء الساكنين . وهذا كله لا يجوز ولا يصح نقله ولا تثبت روايته عن حمزة ولا عن أحد من أصحابه ، ولا عمن نقل عنهم ، ويقال له : الرسمي . وقد يقال له : الشاذ ، وقد يقال له : المتروك ، على أن بعضه أشد نكرا من بعض . فأما إبدال الهمزة ياء في نحو ( خايفين ، وجاير ، وأوليك ) ، وواوا في نحو ( ابناوكم ، وأحباوه ) فإني تتبعته من كتب القراءات ونصوص الأئمة ، ومن يعتبر قولهم فلم أر أحدا ذكره ولا نص عليه ولا صرح به ، ولا أفهمه كلامه ، ولا دلت عليه إشارته سوى أبي بكر بن مهران ، فإنه ذكر في كتابه في وقف حمزة وجها في نحو ( تائبات ) بإبدال الياء ، وفي نحو ( رووف ) بإبدال الواو . ورأيت أبا علي الأهوازي في كتابه " الاتضاح " حكى هذا عن شيخه أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد الطبري ، وقال : ولم أر أحدا ذكره ولا حكاه من جميع من لقيت غيره ( قلت ) : ثم إني راجعت [ ص: 463 ] كتاب الطبري ، وهو " الاستبصار " فلم أره حكى في جميع ذلك سوى بين بين لا غير ، والقصد أن إبدال الياء والواو محضتين في ذلك ، هو مما لم تجزه العربية ، بل نص أئمتها على أنه من اللحن الذي لم يأت في لغة العرب ، وإن تكلمت به النبط ، وإنما الجائز من ذلك هو بين بين لا غير . وهو الموافق لاتباع الرسم أيضا ، وأما غير ذلك فمنه ما ورد على ضعف ، ومنه ما لم يرد بوجه ، وكله غير جائز من القراءة من أجل عدم اجتماع الأركان الثلاثة فيه . فهو من الشاذ المتروك الذي لا يعمل به ولا يعتمد عليه ، والله أعلم .

                                                          وسيأتي النص في كل فرد فرد ليعلم الجائز من الممتنع والله الموفق . وذهب جمهور أهل الأداء إلى القول بالتخفيف القياسي حسبما وردت الرواية به دون العمل بالتخفيف الرسمي ، وهذا الذي لم يذكر ابن سوار وابن شيطا وأبو الحسن بن فارس وأبو العز القلانسي ، وأبو محمد سبط الخياط وأبو الكرم الشهرزوري ، والحافظ أبو العلاء ، وسائر العراقيين ، وأبو طاهر بن خلف ، وشيخه أبو القاسم الطرسوسي وأبو علي المالكي وأبو الحسن بن غلبون وأبو القاسم بن الفحام وأبو العباس المهدوي ، وأبو عبد الله بن سفيان ، وغيرهم من الأئمة سواه ، ولا عدلوا إلى غيره ، بل ضعف أبو الحسن بن غلبون القول به ، ورد على الآخذين به ، ورأى أن ما خالف جادة القياس لا يجوز اتباعه ولا الجنوح إليه إلا برواية صحيحة ، وأنها في ذلك معدومة ، والله أعلم .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية