الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم

لما كان من شرط التوبة تدارك ما يمكن تداركه مما فات وكان التخلف عن الغزو مشتملا على أمرين هما عدم المشاركة في الجهاد ، وعدم إنفاق المال في الجهاد ، جاء في هذه الآية إرشاد لطريق تداركهم ما يمكن تداركه مما فات وهو نفع المسلمين بالمال ، فالإنفاق العظيم على غزوة تبوك استنفد المال المعد لنوائب المسلمين ، فإذا أخذ من المخلفين شيء من المال انجبر به بعض الثلم الذي حل بمال المسلمين .

فهذا وجه مناسبة ذكر هذه الآية عقب التي قبلها . وقد روي أن الذين اعترفوا بذنوبهم قالوا للنبيء - صلى الله عليه وسلم - : هذه أموالنا التي بسببها تخلفنا عنك خذها فتصدق بها وطهرنا واستغفر لنا ، فقال لهم : لم أؤمر بأن آخذ من أموالكم . حتى نزلت هذه الآية فأخذ منهم النبيء - صلى الله عليه وسلم - صدقاتهم ، فالضمير عائد على ( آخرين اعترفوا بذنوبهم ) .

والتاء في ( تطهرهم ) تحتمل أن تكون تاء الخطاب نظرا لقوله : ( خذ ) ، وأن تكون تاء الغائبة عائدة إلى الصدقة .

وأيا ما كان فالآية دالة على أن الصدقة تطهر وتزكي .

[ ص: 23 ] والتزكية : جعل الشيء زكيا ، أي كثير الخيرات . فقوله : ( تطهرهم ) إشارة إلى مقام التخلية عن السيئات . وقوله : ( تزكيهم ) إشارة إلى مقام التحلية بالفضائل والحسنات . ولا جرم أن التخلية مقدمة على التحلية . فالمعنى أن هذه الصدقة كفارة لذنوبهم ومجلبة للثواب العظيم .

والصلاة عليهم : الدعاء لهم . وتقدم آنفا عند قوله - تعالى : وصلوات الرسول . وقد كان النبيء - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآية إذا جاءه أحد بصدقته يقول : اللهم صل على آل فلان . كما ورد في حديث عبد الله بن أبي أوفى . يجمع النبيء - صلى الله عليه وسلم - في دعائه في هذا الشأن بين معنى الصلاة وبين لفظها فكان يسأل من الله - تعالى - أن يصلي على المتصدق . والصلاة من الله الرحمة ، ومن النبيء الدعاء .

وجملة إن صلواتك سكن لهم تعليل للأمر بالصلاة عليهم بأن دعاءه سكن لهم ، أي سبب سكن لهم ، أي خير . فإطلاق السكن على هذا الدعاء مجاز مرسل .

والسكن : بفتحتين ما يسكن إليه ، أي يطمأن إليه ويرتاح به . وهو مشتق من السكون بالمعنى المجازي ، وهو سكون النفس ، أي سلامتها من الخوف ونحوه ; لأن الخوف يوجب كثرة الحذر واضطراب الرأي فتكون النفس كأنها غير مستقرة ، ولذلك سمي ذلك قلقا لأن القلق كثرة التحرك . وقال - تعالى : وجعل الليل سكنا وقال والله جعل لكم من بيوتكم سكنا ، ومن أسماء الزوجة السكن ، أو لأن دعاءه لهم يزيد نفوسهم صلاحا وسكونا إلى الصالحات لأن المعصية تردد واضطراب ، كما قال - تعالى : فهم في ريبهم يترددون ، والطاعة اطمئنان ويقين ، كما قال - تعالى : ألا بذكر الله تطمئن القلوب

وجملة والله سميع عليم تذييل مناسب للأمر بالدعاء لهم . والمراد بالسميع هنا المجيب للدعاء . وذكره للإشارة إلى قبول دعاء النبيء - صلى الله عليه وسلم . ففيه إيماء إلى التنويه بدعائه . وذكر العليم إيماء إلى أنه ما أمره بالدعاء لهم إلا لأن في دعائه لهم خيرا عظيما وصلاحا في الأمور .

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ، وعاصم في رواية أبي بكر ، وأبو جعفر ويعقوب " صلواتك " بصيغة الجمع . وقرأه حفص عن عاصم ، وحمزة ، والكسائي وخلف [ ص: 24 ] ( صلاتك ) بصيغة الإفراد . والقراءتان سواء ; لأن المقصود جنس صلاته - عليه الصلاة والسلام . فمن قرأ بالجمع أفاد جميع أفراد الجنس بالمطابقة لأن الجمع المعرف بالإضافة يعم ، ومن قرأ بالإفراد فهمت أفراد الجنس بالالتزام .

التالي السابق


الخدمات العلمية