الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ ولئن سألتهم من خلق السماوات [ ص: 56 ] والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد

لما ذكر الله تعالى حال الكفرة أعقب ذلك بذكر حال المؤمنين ليتبين الفرق وتتحرك النفوس إلى طلب الأفضل. وقرأت عامة القراء: "يسلم" بسكون السين وتخفيف اللام، وقرأ عبد الله بن مسلم ، وأبو عبد الرحمن : "يسلم" بفتح السين وشد اللام، ومعناه يخلص ويوجه ويستسلم به، و"الوجه" هنا الجارحة، استعير للقصد; لأن القاصد للشيء فهو مستقبله بوجهه، فاستعير ذلك للمعاني، و"المحسن" الذي جمع القول والعمل، وهو الذي شرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل عليه السلام.

و"العروة الوثقى" هي استعارة للأمر المنجي الذي لا يخاف عليه استحالة ولا إخلال، والعرى موضع التعليق، فكأن المؤمن متعلق بأمر الله تبارك وتعالى، فشبه ذلك بالعروة، و"الأمور" جمع أمر وليس بالمضاد للنهي. ثم سلى عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام عن موجدته لكفر قومه وإعراضهم، فأمره أن لا يحزن لذلك، بل يعمد لما كلفه من التبليغ ويرجع الكل إلى الله تعالى. وقرأت فرقة: "يحزنك" من الرباعي، وقرأت فرقة: "يحزنك" من الثلاثي، و"ذات الصدور" ما فيها، والقصد من ذلك: إلى المعتقدات والآراء، ومن ذلك قولهم: "الذئب مغبوط بذي بطنه"، ومنه [ ص: 57 ] قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "ذو بطن بنت خارجة ". و"المتاع القليل" هو العمر في الدنيا، و"العذاب الغليظ" معناه: المغلظ المؤلم.

ثم أقام عليهم الحجة في أمر الأصنام بأنهم يقرون بأن الله تعالى خالق المخلوقات، ويدعون مع ذلك إلها غيره، والمعنى: قل الحمد لله على ظهور الحجة عليكم. وقوله تعالى: بل أكثرهم إضراب عن مقدر، تقديره ليس دعواهم بحق، ونحو هذا، وقوله: "أكثرهم" على أصله; لأن منهم من شذ فعلهم كزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل. ويحتمل أن تكون الإشارة أيضا إلى من هو معد أن يسلم. ثم أخبر على جهة الحكم وفصل القضية بأن الله عز وجل له ملك السماوات والأرض وما فيهما، أي: وأقوال هؤلاء لا معنى لها ولا حقيقة، والمعنى: الذي لا حاجة به في وجوده وكماله إلى شيء، ولا نقص بجهة من الجهات، و"الحميد" المحمود، أي: كذلك هو بذاته وصفاته.

التالي السابق


الخدمات العلمية