الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 601 ] 111 - فصل

                          في حكم أوقافهم ووقف المسلم عليهم .

                          أما ما وقفوه هم فينظر فيه ، فإن أوقفوه على معين أو جهة يجوز للمسلم الوقف عليها كالصدقة على المساكين والفقراء وإصلاح الطرق والمصالح العامة ، أو على أولادهم وأنسالهم وأعقابهم ، فهذا الوقف صحيح ، حكمه حكم وقف المسلمين على هذه الجهات ، لكن إن شرط في استحقاق الأولاد والأقارب بقاءهم على الكفر ، فإن أسلموا لم يستحقوا شيئا لم يصح هذا الشرط ، ولم يجز للحاكم أن يحكم بموجبه باتفاق الأمة ، فإنه مناقض لدين الإسلام ، مضاد لما بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو أبلغ في ذلك من أن يقف على أولاده ما داموا ساعين في الأرض بالفساد مرتكبين لمعاصي الله ، فمن تاب منهم أخرج من الوقف ولم يستحق منه شيئا ، وهذا لا يجيزه مسلم .

                          فإن قيل : فما تقولون لو وقفوا على مساكين أهل الذمة ، هل يستحقونه دون مساكين المسلمين أو يستحقه مساكين المسلمين دونهم أو يشتركون فيه ؟

                          قيل : لا ريب أن الصدقة جائزة على مساكين أهل الذمة ، والوقف صدقة ، فهاهنا وصفان : وصف يعتبر وهو المسكنة ، ووصف ملغى في الصدقة ، والوقف وهو الكفر ، فيجوز الدفع إليهم من الوقف بوصف [ ص: 602 ] المسكنة لا بوصف الكفر ، فوصف الكفر ليس بمانع من الدفع إليهم ، ولا هو شرط في الدفع كما يظنه الغالط أقبح الغلط وأفحشه ، وحينئذ فيجوز الدفع إليه بمسكنته وإن أسلم فهو أولى بالاستحقاق فالفرق بين أن يكون الكفر جهة وموجبا ، وبين ألا يكون مانعا ، فجعل الكفر جهة موجبا للاستحقاق مضاد لدين الله تعالى وحكمه ، وكونه غير مانع موافق لقوله تعالى : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون .

                          فإن الله سبحانه لما نهى في أول السورة عن اتخاذ المسلمين الكفار أولياء وقطع المودة بينهم وبينهم ، توهم بعضهم أن برهم والإحسان إليهم من الموالاة والمودة ، فبين الله سبحانه أن ذلك ليس من الموالاة المنهي عنها ، وأنه لم ينه عن ذلك بل هو من الإحسان الذي يحبه ويرضاه ، وكتبه على كل شيء ، وإنما المنهي عنه تولي الكفار والإلقاء إليهم بالمودة ، ولا ريب أن جعل الكفر بالله وتكذيب رسوله موجبا وشرطا في الاستحقاق من أعظم موالاة الكفار المنهي عنها فلا يصح من المسلم ولا يجوز للحاكم تنفيذه من أوقاف الكفار ، فأما إذا وقفوا ذلك فيما بينهم ولم يتحاكموا إلينا ولا استفتونا عن حكمه لم يتعرض لهم فيه ، وحكمه حكم عقودهم وأنكحتهم الفاسدة .

                          وكذلك وقف المسلم عليهم ؛ فإنه يصح منه ما وافق حكم الله [ ص: 603 ] ورسوله ، فيجوز أن يقف على معين منهم أو على أقاربه وبني فلان ونحوه ، ولا يكون الكفر موجبا وشرطا في الاستحقاق ولا مانعا منه ، فلو وقف على ولده أو أبيه أو قرابته استحقوا ذلك وإن بقوا على كفرهم ، فإن أسلموا فأولى بالاستحقاق ، وكذلك إن وقف على مساكينهم وفقرائهم وزمناهم ونحو ذلك استحقوا ، وإن بقوا على كفرهم فإن أسلموا فأولى بالاستحقاق .

                          وأما الوقف على كنائسهم وبيعهم ومواضع كفرهم التي يقيمون فيها شعار الكفر فلا يصح من كافر ولا مسلم ، فإن في ذلك أعظم الإعانة لهم على الكفر والمساعدة والتقوية عليه ، وذلك مناف لدين الله .

                          وللإمام أن يستولي على كل وقف وقف على كنيسة أو بيت نار أو بيعة ، كما له أن يستولي على ما وقف على الحانات والخمارات وبيوت الفسق ، بل أولى ؛ فإن بيوت الكفر أبغض إلى الله ورسوله من بيوت الفسق ، وشعار الكفر أعظم من شعائر الفسق ، وأضر على الدين .

                          وإن كنا نقر بيوت الكفر الجائز إقرارها ولا نقر بيوت الفسق فما ذاك لأنها أسهل منها وأهون ، بل لأن عقد الذمة اقتضى إقرارهم عليها ، كما نقر الكافر على كفره ولا نقر الفاسق على فسقه ، فللأمام أن ينتزع تلك الأوقاف ويجعلها على القربات ، ونحن لم نقر أهل الذمة في بلاد الإسلام على أن يتملكوا أرض المسلمين ودورهم ، ويستعينوا بها على شعار الكفر .

                          وقد بينا أنهم في دار الإسلام تبع ، ولهذا قال الشافعي ومن وافقه : إن الجزية تؤخذ منهم عوض سكناهم بين أظهر المسلمين ، وانتفاعهم بدار [ ص: 604 ] الإسلام وإلا فالأرض لله ولرسوله وعباده المسلمين الذين كتب الله في الزبور من بعد الذكر أنه يورثها عباده الصالحين .

                          وقد صرح بذلك المالكية في كتبهم ، فقال القاضي أبو الوليد : والظاهر عندي أنه لا يجوز الوقف على الكنيسة ; لأنه صرف صدقته إلى وجه معصية محضة ، كما لو صرفها في شراء خمر وأعطاها لأهل الفسق ، ونص الإمام أحمد على ما هو أبلغ من ذلك .

                          قال الخلال في " جامعه " ( باب النصارى يوقفون على البيع ، [ ص: 605 ] فيموت النصراني ، ويخلف أولادا فيسلمون ) : أخبرني محمد بن أبي هارون الوراق أن إسحاق بن إبراهيم بن هانئ حدثهم ، وأخبرنا محمد بن علي ، ثنا يعقوب بن بختان قال : سئل أبو عبد الله عن أقوام نصارى أوقفوا على البيعة ضياعا كثيرة ، فمات النصارى ولهم أبناء نصارى ثم أسلم بعد ذلك الأبناء ، والضياع بيد النصارى ، ألهم أن يأخذوها من أيدي النصارى ؟ قال أبو عبد الله : نعم يأخذونها ، وللمسلمين أن يعينوهم حتى يستخرجوها من أيديهم .

                          وهذا مذهب الشافعي أيضا .

                          قال الشيخ في " المغني " : ولا نعلم فيه خلافا ، وذلك لأن ما لا يصح من المسلم الوقف عليه لا يصح من الذمي ، كالوقف على غير معين .

                          قال : فإن قيل : فقد قلتم إن أهل الكتاب إذا عقدوا عقودا فاسدة وتقابضوا ثم أسلموا أو ترافعوا إلينا لم ننقض ما فعلوه ، فكيف أجزتم الرجوع فيما وقفوه على كنائسهم ؟ قلنا : الوقف ليس بعقد معاوضة ، وإنما هو إزالة للملك في الموقوف على وجه القربة ، فإذا لم يقع صحيحا لم يزل الملك ، فبقي بحاله كالعتق .

                          [ ص: 606 ] قال : وقد روي عن أحمد في نصراني أشهد في وصيته أن غلامه فلانا يخدم البيعة خمس سنين ، ثم هو حر ثم مات مولاه وخدم سنة ثم أسلم ، ما عليه ؟ قال : هو حر ويرجع على الغلام بأجرة خدمته مبلغ أربع سنين ، وروي عنه أنه حر ساعة مات مولاه ; لأن هذه معصية .

                          قال : وهذه الرواية أصح وأوفق لأصوله ، ويحتمل أن قوله : " يرجع عليه بخدمة أربع سنين " لم يكن لصحة الوصية بل لأنه إنما أعتقه بعوض اعتقد صحته ، فإذا تعذر الغرض بإسلامه كان عليه ما يقوم مقامه ، كما لو تزوج الذمي ذمية على ذلك ثم أسلم فإنه يجب عليه المهر ، كذا هاهنا يجب عليه العوض والأول أولى ، انتهى كلامه .

                          فقد صرح في مسألة الوقف أنه ينزع ويدفع إلى أيدي أولاده الذين أسلموا ، وهذا تصريح منه ببطلان الوقف ، وأنه لما مات انتقل ميراثا عنه إلى أولاده ، ثم أسلموا بعد أن ورثوه .

                          وأما مسألة الوصية فلا تناقض ذلك ; لأن العتق فيها بعوض فإذا لم يصح رجع الوارث في مقابله ، وهو القيمة كما ذكره الشيخ .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية